كائن بحري قديم بعمر 518 مليون سنة يكشف أسرار العيون المعقدة والتطور المفاجئ

3 د
تم اكتشاف مخلوق بحري عمره 518 مليون سنة يُدعى "نيكتوكاريديد".
كان يُعتقد سابقًا أنه قريب للحبار، لكنه في الواقع سلف لدودة السهم.
يمتلك النيكتوكاريديد عيونًا معقدة على شكل عدسة الكاميرا.
هذا الاكتشاف يغير فهمنا لتطور ديدان السهم ويزيد غموضها.
قد تعتقد أن الشكل الخارجي لأي مخلوق يُخبرنا بكل شيء عن هويته، لكن الحقيقة تثبت العكس. هذا الدرس تعلمه العلماء مؤخراً أثناء دراسة كائن قديم يُدعى "نيكتوكاريديد"، وجد منذ ما يزيد على خمسمئة مليون عام في أعماق البحار، حيث كان يبدو للوهلة الأولى شبيهاً بالحبار، ليتضح لاحقاً أنه يحمل قصة تطورية أكثر إثارة من مجرد شبه خارجي.
بدأت القصة عندما عثر فريق من الباحثين على مستحاثات نيكتوكاريديد جديدة في موقع سيريوس باسيت في شمال غرينلاند، وهو من الكنوز الأثرية النادرة التي تحفظ تفاصيل دقيقة عن الكائنات البحرية التي عاشت خلال العصر الكمبري المبكر قبل نحو 518 مليون سنة. وبفضل حالة الحفظ المذهلة، تمكن العلماء من فحص 25 فرداً من هذا الكائن ضمن دراسة حديثة، ساعين لحسم الجدل القديم حول موقعه الحقيقي على شجرة الحياة.
التحول المفاجئ في تصنيف نيكتوكاريديد
لعقود طويلة، تصوّر الباحثون أن الكائن ينتمي إلى عائلة رأسيات الأرجل، أي أقارب الحبار والأخطبوط، نظراً لوجود أطراف أشبه بالأذرع ورأس كبير يذكّر بالحبار المعاصر. إلا أن نتائج الدراسة الجديدة، المنشورة في مجلة "ساينس أدفانسز"، قلبت الموازين، حيث كشفت أن النيكتوكاريديد ليس سوى الجد القديم لدودة بحرية تُعرف بـ "دودة السهم". الرابط الحاسم بينهما ظهر في بنية عصبية خاصة تدعى "العقدة البطنية"، وهي تجمع للأعصاب في جانب البطن لا يوجد إلا لدى ديدان السهم، ليحسم العلماء أخيراً الصلة التطورية لهذا الكائن المثير.
هذا الاكتشاف لا يغير فقط مسار الفهم حول تطور رأسيات الأرجل، بل يزيد الغموض حول تطور ديدان السهم أنفسها. فبينما كان يُعتقد أن هذه الديدان كائنات بسيطة لا تتعدى كونها طفيليات أو فرائس صغيرة، تثبت الأحافير أنها كانت في الماضي مفترسات فائقة وتحتل قمة السلسلة الغذائية.
عيون بتقنية الكاميرا في زمن الديناصورات البحرية
ومع الخوض في هذا الاكتشاف، نجد أن أحد أكثر الجوانب الملفتة لدى النيكتوكاريديد هو امتلاكه عيوناً معقدة أشبه بعدسة الكاميرا، أي عيون قادرة على تكوين صور واضحة وتحديد اتجاه الضوء، تماماً كما تفعل العيون البشرية. أما ديدان السهم المعاصرة فهي بالكاد تميز الاتجاه فقط دون تفاصيل واضحة. هذا التطور البصري المتقدّم يمنح النيكتوكاريديد قدرة هائلة على الصيد والرصد، ما جعله مفترساً لا يُستهان به وسط محيط يعج بالتنافس والاستراتيجيات للبقاء.
من هنا يمكننا الربط بين دقة الرؤية وتفوق النيكتوكاريديد في السباحة والصيد، حيث تشير الأبحاث إلى أنه كان مجهزاً بأطراف طويلة وأعضاء حسية متطورة. وبفضل عيناه الاستثنائيتين، استطاع هذا الكائن ملاحقة فرائسه بمهارة كبيرة، وقد عُثر بالفعل على بقايا قشريات ضمن أحشاء بعض مستحاثاته، ما يثبت دوره كحيوان مفترس فعال وليس ككائن بسيط أو محدود الإمكانيات كما هو حال أقاربه اليوم.
التطور، التشابه، والمفاجآت المستمرة في أحافير القدماء
يرتبط هذا الاستنتاج أيضاً بفكرة أوسع حول التطور في عالم البحار، إذ تكرر الطبيعة نفسها بعض السمات لدى أنواع متباعدة كالحيتان البحرية والزواحف القديمة، فكلما اعتمد نوع ما أسلوب حياة معين، كالصيد السريع في المياه المفتوحة، ظهرت لديه صفات مشتركة كالشكل الانسيابي أو العيون المتطورة. ما حدث مع النيكتوكاريديد يُظهر كيف تتقاطع الطرق التطورية أحياناً بشكل قد يربك العلماء، خاصة عندما تعتمد الدراسات على الانطباع الخارجي فقط دون التعمق في البنية العصبية أو البصرية.
وفي ختام هذا الكشف العلمي اللافت، يمكن القول إن قصة النيكتوكاريديد تمنحنا نافذة ثمينة لفهم أسرار الحياة البحرية القديمة، ومراحل التطور التي شكّلت الكائنات عبر الزمن. ربما لو استخدم العلماء مصطلح "أسلاف ديدان السهم المفترسة" بدلاً من "حبار بدائي" لكان السياق العلمي أكثر دقة. كما أن التركيز على تفاصيل بنية العين والعقدة البطنية كان ليمنح القارئ فهماً أعمق لأهمية الاكتشاف. هكذا تظل دراسة أحافير الماضي محركاً رئيسياً لإعادة تشكيل تصوراتنا عن التنوع البيولوجي وبدايات الحياة في كوكبنا.