كل قضمة شوكولاتة… هي في الحقيقة هدية من البكتيريا!

4 د
تلعب الميكروبات دورًا أساسيًا في تشكيل نكهة الشوكولاتة خلال عملية التخمير.
الأبحاث توضح أن الخمائر والبكتيريا تتفاعل مع الكاكاو لتكوين نكهات فريدة.
يمكن استخدام مجتمعات ميكروبية اصطناعية للتحكم في منح النكهات الفاخرة للشوكولاتة.
المزارعون يمكنهم تحسين جودة الشوكولاتة عبر التحكم الدقيق في التفاعلات البيئية والميكروبية.
قد تبدو الشوكولاتة قطعة بسيطة من المتعة، لكنك ربما لم تتخيل يوماً أن وراء طعمها الرائع أسراراً عميقة ومفاجئة تبدأ من داخل بذرة الكاكاو ذاتها. في السطور التالية، سنخوض معًا رحلة مشوّقة إلى المزارع والمختبرات، لنكشف كيف تلعب الميكروبات، تلك الكائنات الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجردة، الدور الأساسي في صنع شخصية الشوكولاتة التي تُقيم حفلاً من النكهات في فمك.
في البداية، قد يدور في ذهنك أن أصل مذاق الشوكولاتة يرجع فقط لجودة حبوب الكاكاو نفسها، أو ربما للأرض والمناخ أو لما يُعرف في عالم الذوّاقة بمصطلح “تيروار” الذي يعني “روح المكان”. لكن الأبحاث الأخيرة، بقيادة ديفيد جو بولتشان وفريقه في جامعة نوتنغهام، أثبتت أن جزءًا كبيرًا من روعة نكهة الشوكولاتة يتكوّن أثناء مرحلة التخمير، بفعل نشاط الخمائر والبكتيريا البرية التي تعيش بشكل طبيعي على الحبوب وغلافها الأبيض الرطب بعد قطفها مباشرة. هذه الكائنات الدقيقة تتسلّل بخفة إلى عالم الكاكاو، لتغذي التفاوتات بين الشوكولاتة الفاخرة ذات الطابع الفاكهي والزهري، والشوكولاتة التقليدية الأقل تعقيدًا في النكهة.
ولكي نوضح هذه الرحلة الفريدة، فكر في عملية التخمير كحفلة ديناميكية للكائنات المجهرية. في البداية، تتقدم الخمائر، وعلى رأسها “ساكاروميسيس سيريفيسيا” الشهيرة التي تستخدَم أيضًا في صناعة الخبز والنبيذ، لتتغذى على السكريات وتحوّلها إلى كحول وحرارة. ترتفع درجة حرارة الكتلة بسرعة خلال الساعات الأولى، حتى تصل إلى نحو 44 درجة مئوية – وهي حرارة حرجة تمنع حبوب الكاكاو من الإنبات وتحافظ على خصائصها. ومن هنا، ينتقل الميكروفونا، أو مجتمع الميكروبات، إلى مرحلة جديدة.
تأثير التغيرات البيئية والميكروبات على النكهة
النقطة التالية في الرحلة ليست إلا تجسيداً لتفاعل البيئة والميكروبات مع الكاكاو، حيث تبدأ البكتيريا المنتجة للأحماض، مثل حمض اللبنيك وحمض الخليك، في الازدهار وتسهم في تحويل الكحول إلى أحماض، مما يرفع الحموضة ويفتت لبّ الحبة أكثر فأكثر. يتواصل دخول أنواع أخرى متنوعة من البكتيريا والخمائر، ولكل منها نصيب في إنتاج جزيئات نكهة معقدة – من اللمسات الزهرية إلى لمحات الحمضيات والتوت، بل حتى نكهات الفواكه الاستوائية التي تجعل الشوكولاتة الفاخرة فريدة لا تُنسى.
هذا التوافق بين نوع الميكروبات وتوقيت ظهورها وسرعة تغير الحرارة والحموضة هو الذي يعطي كل دفعة من حبوب الكاكاو، وحتى كل مزرعة، طابعها الخاص. وفي هذا السياق، قام الباحثون في كولومبيا بتحليل معمّق لثلاث مزارع، فوجدوا أن اختلاف تركيبة الخمائر والبكتيريا وحده قادر على رسم خرائط النكهة وتحديد مصير الشوكولاتة بين الفخامة أو المنتَج التجاري الروتيني.
ومن هذا المنطلق، توصل العلماء إلى فكرة مبتكرة، إذ تمكنوا في المختبر من إعادة بناء مجتمع ميكروبي اصطناعي باستخدام مجموعات مختارة من الخمائر والبكتيريا، في مسعى للتحكم بشكل أفضل في منح النكهات الفاخرة للشوكولاتة بشكل ثابت ولو في ظروف مختلفة. وردّت لجنة ذواقة محترفين بأن الشوكولاتة الناتجة حملت بالفعل عبير أزهار البرتقال، ونكهة التوت والفواكه الاستوائية، مع لمحات من زهرة البرتقال والحمضيات – لكنها افتقدت لبعض الدرجات الخشبية والكراميل والجوزية.
وما يربط بين هذه الإنجازات والرؤية المستقبلية هو كيف يمكن لهذا النهج أن يسمح للمزارعين حول العالم بإنتاج شوكولاتة بجودة عالية وبنكهات مُحسنة. ومع ذلك، ترى فئة من صانعي الشوكولاتة الحرفيين أن تعميم مجتمعات الميكروبات قد يفقد المنتج تميّزه وي homogenize النكهات. فهم يعتمدون على المزج الطبيعي بين الميكروبات المحلية والتنوع البيئي لضمان أصالة كل قطعة.
من المهم الإشارة هنا إلى أن الدراسات أثبتت وجود حدود حادة لما يعتبره البشر لذيذًا – فالإفراط أو النقص في مركبات النكهة قد يقلب الطعم من متعة إلى نفور. لذلك، تبقى براعة الميكروبات المحلية وقدرتها على التكيّف مع بيئة كل مزرعة هي التحدي والفرصة معًا.
في الختام، تبرز لنا صورة الشوكولاتة كنتاج إبداعي لتفاعل الطبيعة ويد الإنسان، حيث يجتمع الإرث الزراعي مع عوالم الميكروبات الدقيقة لصياغة مذاقات لا تتكرر. فالمرة القادمة التي تتذوق فيها شوكولاتة فاخرة أو حتى لوحاً عادياً، تذكّر أنك تستمتع بتحفة صغيرة من فنون الحياة يصنعها فريق متكامل من البكتيريا، الخمائر، حرارة الشمس، وأمطار المزارع الاستوائية – كل ذلك داخل قطعة واحدة تذوب في الفم، وتختصر قصة نكهات لا تُنسى.