كوكب جديد يدور “عكس الاتجاه”: عندما يتحدى الفلك قوانين الطبيعة!

4 د
اكتشف العلماء كوكباً يدور في نظام نجمي بطريقة "ارتجاعية".
يدور هذا الكوكب بعكس اتجاه النجمين في نظام "نو أوكتانتيس".
يعزز الكشف فهم تكون الكواكب في الأنظمة الثنائية.
تحولات النجوم قد تفسر وجود هذا الكوكب الغريب.
يفتح الاكتشاف أفاقاً جديدة لدراسة الكواكب الضائعة.
وسط عالم الفلك المذهل الذي يكشف لنا عجائبه يوماً بعد يوم، جاء خبر اكتشاف كوكب يدور حول نجمين بطريقة "عكسية" ليهز أوساط العلماء ويعيد طرح الأسئلة الكبرى حول كيفية تشكل الكواكب حول النجوم، خاصة في الأنظمة الثنائية (حيث يدور نجمان حول بعضهما البعض). أحدث هذا الكشف العلمي، الذي نُشر في مجلة نيتشر بتاريخ 21 مايو 2025، ضجة في الأوساط البحثية بعد أن أعلن فريق بقيادة البروفيسور مان هوي لي من جامعة هونغ كونغ، تأكيد وجود كوكب "ريتروغريد" يدور في اتجاه معاكس لدوران النجمين في نظام "نو أوكتانتيس". استخدم الفريق تقنيات دقيقة لتحليل السرعة الشعاعية بالاستعانة بجهاز HARPS التابع للراصد الأوروبي الجنوبي، لفك لغز ما كان يعتقد سابقاً أمراً مستحيلاً.
ونتيجة لهذا العمل الرائد، وجد العلماء أنفسهم أمام حالة فريدة: نظام نجمي يبلغ عمره قرابة 2.9 مليار سنة، يضم نجماً عملاقاً فرعياً يُعرف باسم "نو أوكت أ"، بكتلة تعادل مرة ونصف الشمس تقريباً، ونجماً أصغر "نو أوكت ب" يمثل نصف كتلة شمسنا. يدور هذان النجمان حول بعضهما كل 1050 يوماً، ومنذ عام 2004 ظهرت فرضيات بوجود كوكب يدور هناك، لكن الدلائل المكتشفة مؤخراً عبر مراقبة دقيقة وطويلة المدى أثبتت أن المدار حقاً "عكسي"، في مشهد نادراً ما يشهده الفلك.
حيرة العلماء هنا بدأت مع سؤال بديهي: لماذا وكيف يدور كوكب، المفترض أن يتبع اتجاه الغبار الكوني السائد حول النجم، بعكس المسار؟ عادةً ما تدور الكواكب في نفس اتجاه نجومها تبعاً لذوبان المادة الكونية الذي يدفع باتجاه موحد، مثلما تفعل الكواكب في مجموعتنا الشمسية. لكن في حالة "نو أوكتانتيس"، الأمر مختلف تماماً. الكوكب المُكتشف يتحرك عكس حركة النجمين، ظاهرة توصف في الأوساط العلمية بالمدار الارتجاعي، ما يُعد تحدياً لنظريات نشوء الكواكب – خاصة مع وجود تأثيرات جاذبية مزدوجة من نجمين متقاربين.
ولكي يتأكد العلماء من غرابة هذا السلوك المداري، أرشيف البيانات المتواصل على مدى 18 عاماً أتاح لهم تتبع حركات النجم وتغييراته المتكررة بدقة ملحوظة. وعندما ظهرت نتائج الرصد الحديثة، عززتها قراءات HARPS لتظهر أن مدار الكوكب لا يتحرك فقط بعكس اتجاه النجمين بل أيضاً يكاد يتطابق مع مستوى دورانهما حول بعضهما البعض. هذه الدقة في الرصد أحيت الجدل داخل المختبرات حول إمكانية وجود بيئة خصبة لتكون "كواكب ارتجاعية" في مثل أنظمة النجوم المزدوجة، وربما حتى في أنظمة بها نجوم أقزم أو "قزم أبيض".
وهنا تظهر أهمية التطورات التي مرت بها النجوم نفسها، فالنجمان في النظام لم يبقيا كما كانا عند ولادتهما. النجم الثاني، "نو أوكت ب" تحول مع مرور الوقت إلى قزم أبيض بعد أن فقد معظم كتلته الأصلية. هذا التحول أطلق غيوماً وضخ كميات هائلة من المادة في الفضاء المحيط، مقدماً فرضية شيقة: ربما تكون الدوامة الكونية الناتجة عن مادة القزم الأبيض قد شكلت قرصاً مدارياً جديداً انبثق عنه هذا الكوكب الغامض. فريق البحث عرض احتمالين: إما نشأ الكوكب من هذا القرص المرتجل عند تحول النجم الثاني، أو جرى اجتذابه إلى مداره الحالي بفعل تغيرات جذرية في البيئة النجمية.
محور جديد في البحث العلمي حول هذه القضية يطرح نفسه هنا: كيف نفسر ظاهرة كواكب "الجيل الثاني" التي تظهر بعد التحولات الهائلة للنجوم، وهل هناك مزيد من الكواكب الضائعة في أرجاء المجرة لم نكتشفها بعد؟ الباحثون أكدوا أن تاريخ التطور النجمي في النظام يحمل عنه دلالات غنية؛ فمن غير المحتمل أن الكوكب تشكل في بداية عمر النظام، بل هناك شواهد قوية على تكوّنه لاحقاً إما من بقايا مستعر، أو أنه كوكب ضال وقع أسير جاذبية النظام مع تطور النجم.
كل ما سبق يدفعنا للتفكير في النماذج الفلكية التقليدية تحت ضوء جديد، إذ إن وجود كوكب "ارتجاعي" في منظومة نجوم متقاربة يثير تساؤلات عن ميكانيكا المدارات وتعاقب القوى الكونية في تشكيل المنظومات الكوكبية، ويفتح أبواباً لبحث ظواهر مثل أسر الكواكب وانتقالها بين نجوم متعددة أو نشأتها من مواد طارئة حول نجوم محتضرة.
ومع نهاية هذه الجولة في خفايا نظام نو أوكتانتيس، ندرك أن الفلك لم يعد محصوراً في قوالب جامدة ونظريات أحادية الجانب، بل صار فن البحث عن الاستثناء والتفسير المتجدد للأحداث، ولا يضر القارئ المهتم أن يعيد التفكير في المصطلحات ليركز على قوة عبارة "مدار ارتجاعي" مثلاً بدلاً من "عكسي"، أو أن يضيق بؤرة الاهتمام في فقرة البداية لجعلها تصطحبه برفق إلى عمق المفارقة الفلكية، وربما يضيف مزيداً من الترابط بين تحول النجم الثاني وتكوين الكوكب لتعزيز الحس الدرامي لاكتشاف كهذا. فالعلم في تطور دائم، وكلمة اليوم قد تُستبدل بجملة أوضح غداً، وهذا في صميم جمال هذا المجال.