ذكاء اصطناعي

كيف أنقذت ناسا كاميرا من بعد 600 مليون كيلومتر!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

قامت ناسا بإصلاح جونوكام من مسافة 600 مليون كيلومتر عن الأرض.

واجهت الكاميرا أضرارًا بسبب إشعاعات المشتري القوية.

استخدم العلماء تقنية "التلدين الحراري" لإصلاح العيوب في الكاميرا بنجاح.

تحسنت جودة الصور بشكل مفاجئ قبل التحليق قرب قمر آيو.

توسع الفريق في استخدام تقنية التسخين لإصلاح أنظمة أخرى بالمركبة.

في قلب الفضاء السحيق، حيث تدور مركبة "جونو" حول كوكب المشتري العملاق، واجه الفريق العلمي التابع لوكالة ناسا تحديًا استثنائيًا: إصلاح كاميرا "جونوكام" من مسافة تقارب 600 مليون كيلومتر عن الأرض، لحظة مصيرية قد تحدد مصير تسجيل التاريخ مع أحد أقمار المشتري الأكثر نشاطًا، آيو.

ربما يتساءل القارئ: كيف بدأت الحكاية؟ منذ انطلاق مهمة "جونو" لخوض مغامرة استكشافية في نطاق المشتري، كانت جونوكام بمثابة عين الرحلة، تُصوّر بالكاميرا الملونة ما يعجز الإنسان عن بلوغه، فتعيد لنا صورًا مذهلة بالضوء المرئي لتضاريس المشتري وأقماره. لكن موقع الكاميرا خارج الدرع التيتانيوم المقاوم للإشعاعات عرّضها مبكرًا لقصف من أقسى أنواع الإشعاع الفضائي في النظام الشمسي. ومع أن المصممين توقّعوا أن تصمد خلال الدورات الأولى حول الكوكب، لم يعرف أحد إلى أي مدى ستظل شغالة بعد ذلك؛ فقد لاحظ الفريق مرورها - خلال 34 دورة أولى - باختبارات الصورة بنجاح قبل أن تبدأ آثار التلف تظهر شيئًا فشيئًا.

بينما نسترجع تلك اللحظات، لا بد أن نتوقف عند الخطوة التالية التي استلزمت متابعة دقيقة. مع وصول "جونو" إلى دورتها السابعة والأربعين ، بدأت صور جونوكام تتعرض لتشويه واضح وفساد شبه كامل. ولأن طبيعة الأعطال في الفضاء لا تتشابه أبدًا مع الأعطال في مختبر أرضي، وجد الفريق نفسه يحقق عن بعد في أجزاء إلكترونية قد تكون تعرضت للضرر. الاشتباه وقع على منظم جهد الكهرباء، أحد المكونات الدقيقة المسؤولة عن تغذية الكاميرا وتوازن طاقتها. وبالنظر إلى محدودية الخيارات، قرر العلماء تجربة أسلوب "التلدين الحراري" (annealing): تسخين المادة ثم تركها تبرد ببطء. هذه العملية قد تبدو غامضة للقارئ، لكن الفكرة أنها قادرة أحيانًا على إصلاح عيوب مجهرية في مادة كالسيليكون، تستخدم بكثرة في الشرائح الإلكترونية.

إبداع في مواجهة التحدي إشعاعات المشتري والعلاج "الحراري
هنا تبرز عبقرية العلماء؛ فالفريق الهندسي حكم تشغيل سخان الكاميرا حتى بلغت حرارتها 25 درجة مئوية، وهو ضعف درجة حرارتها الاعتيادية. ظلت الأنفاس محبوسة وقاموا بمراقبة النتائج على مدار الأيام التالية. سرعان ما ظهرت الثمار: بدأت جونوكام ترسل صورًا نقية من جديد على مدى عدة دورات. لكن المعضلة لم تنته؛ فمع كل دورة جديدة تزداد "جونو" اقترابًا من أقوى مجالات الإشعاع المحيطة بالمشتري، وعادت العيوب تظهر بقوة مع الدورة الخامسة والخمسين—مما دفع المهندسين لمحاولة أخيرة، رفع حرارة السخان إلى الحد الأقصى ومحاولة "تلدين" أكثر جرأة.

ويمثل هذا التطور منعطفًا حاسمًا في القصة. على مدار أسبوع كامل من التجارب، لم تظهر الصور تحسنًا يُذكر، ومع اقتراب موعد التحليق القريب من قمر آيو المثير للفضول، كانت الآمال تتلاشى. ولكن، وفي اللحظات الأخيرة قبل عبور المركبة قرب القمر، تحسنت جودة الصور بشكل مفاجئ! التقطت جونوكام مشاهد فريدة لجغرافيا سطح آيو: جبال حادة القمم، وسهول بيضاء بثلوج ثاني أكسيد الكبريت، وحتى براكين لم تُرصد من قبل تظهر تدفقات لافا هائلة—وكل هذا بدقة تذكرنا بصور اليوم الأول للمهمة.

أما فيما يتعلق بتأثير هذه التجربة على مستقبل المركبات الفضائية، فإن مواصلة الاستفادة من هذا "التلدين الحراري" لا تقتصر على جونوكام وحدها. فمنذ نجاح هذه التجربة، وسّع فريق "جونو" استخدام تقنية التسخين لإصلاح أدوات علمية أخرى وأنظمة إلكترونية مهمة على متن المركبة، وهو ما يعزز فكرة تطوير مركبات فضائية مقاومة للإشعاعات، ليس فقط لاستكشاف الكواكب البعيدة بل وأيضًا لدعم أقمار صناعية دفاعية وتجارية بالمدار الأرضي مستقبلاً.

ذو صلة

وهكذا نعود لصلب الموضوع، حيث يؤكد سكوت بولتون، المشرف العلمي على مشروع جونو، أن ما تعلّمه الفريق قد يُحدث نقلة نوعية في تصميم مركبات أكثر صلابة وحيوية أمام الإشعاعات القاسية، سواء لصالح برامج ناسا أو أنظمة الملاحة والاتصال والصناعة الفضائية حول الأرض.

إذاً نجد في قصة إنقاذ جونوكام من العطل الخطير مثالاً نابضًا على عبقرية الإنسان في مواجهة تحديات الفضاء، وأدب الابتكار في أحلك الظروف. وربما كانت كلمة "إعادة إحياء" أو "ترميم" التعبير الأكثر دقة هنا بدل "إصلاح"، لأن ما حدث لجونوكام هو انتصار لروحية المثابرة والبحث ضمن بيئة تعد الأشد فتكًا بالمعدات الإلكترونية. ولعل الأجمل ربط هذا الحدث برسالة أعمق عن أهمية نقل تجارب الفضاء لتطوير تقنيات يومية تمسّ حياتنا ومجتمعنا، ما يدعو دوماً للانتباه لجمال التفاصيل، وإغناء المقال بجُملة إضافية توضح جدوى الاستثمار في أبحاث الفضاء وتبادل الخبرات التقنية مع بقية القطاعات العلمية والصناعية.

ذو صلة