ذكاء اصطناعي

كيف تحافظ جزيئات الدماغ على الذكريات لعقود طويلة؟ الاكتشاف الجديد الذي يكشف اللغز

محمد كمال
محمد كمال

3 د

اكتشف الباحثون علاقة بين بروتينين في الدماغ تحفظ الذكريات طويلة الأمد.

تتكوّن الذكريات القوية عند اتحاد البروتينات "PKMζ" و"KIBRA" في المشابك العصبية.

رغم تجدد البروتينات، تبقى الذكريات بفضل الاتصال المستمر بينهما.

الأبحاث الحالية تفتح الباب لفهم أعمق لآليات استعادة الذكريات.

جميعنا لدينا ذكريات، بعضها هامشي عابر، وبعضها الآخر يدوم طويلاً، لكن هل سبق لك أن سألت نفسك كيف تستطيع ذاكرتك الإبقاء على أحداث مرّت عليها سنوات طوال رغم أن خلايا جسمك تُجدد نفسها باستمرار؟ قد تبدو هذه معضلة مُربكة، وهي بالفعل ما حيّر علماء الأعصاب لسنوات طويلة.

باحثون من جامعتي نيويورك وولاية نيويورك داون ستيت تطرّقوا حديثاً لهذه المعضلة، وكشفوا في دراسة حديثة نُشرت في مجلة "ساينس أدفانسز" أن سرّ ذكرياتنا طويلة الأمد يكمن في علاقة مُثيرة بين بروتينين في الدماغ، هما الـ "PKMζ" والـ "KIBRA". فكيف تخرج هذه العلاقة للنور، وما أثرها على ذاكرتنا؟


علاقة جذابة ثمينة تحفظ الذكريات


اكتشف فريق البحث، بقيادة عالِمَي الأعصاب تود ساكتور وأندريه فينتون، أن هذين البروتينين يتحدان سوياً في نقاط اتصال الخلايا العصبية والتي تسمى "المشابك العصبية". عندما تتكرر تجربة ما، تتقوّى هذه المشابك وتؤكد الذاكرة، ويبدأ البروتين "PKMζ" بالارتباط مع بروتين آخر يُسمى "KIBRA"، يقوم هذا الارتباط بترسيخ قوة الذاكرة وثباتها.

المذهل في الموضوع يكمن أن الجزيئات بمفردها لا تعيش فترات طويلة؛ فهي تتفكك وتتجدد باستمرار، فكيف تنجو ذكريات تعود لعقود طويلة رغم ذلك؟

الفريق توصل إلى اكتشاف مذهل: ما يجعل الذكريات تستمر هو استمرار هذا الارتباط بين البروتينات. عندما يتحلل أحد البروتينين، يتجدد تلقائياً ليستمر الارتباط ويبقى حياً، وبالتالي تحفظ الذكرى. إنها كما لو كانت عملية نقل سلامة مستمرة بين الطرفين، مما يمكّن من استمرارية الذاكرة لزمن غير محدود تقريباً.

لكن هذه النتيجة المُدهشة لم تأتِ بين ليلةٍ وضُحاها. فمنذ أكثر من عقدين واجه "ساكتور" انتقادات عديدة بعدما شكك علماء آخرون في أهمية البروتين "PKMζ"، حينها أصبح السؤال الرئيسي في الأوساط العلمية: إذا لم يكن هذا البروتين هو المسؤول الوحيد عن الاحتفاظ بالذكريات، فما الذي يساعده أو ينسق معه المهمة؟

الإجابة أتت مع اكتشاف بروتين "KIBRA" الأكثر غموضاً، والذي لا يكون محور اهتمام كبير إلا في مجالات نادرة من الأبحاث العصبية والسرطان. وبعد تجارب دقيقة، عرف الباحثون أن "KIBRA" يعمل بمثابة منصّة تثبيت أو مرساة يهتدي إليها بروتين "PKMζ"، وبالتالي يتشكل الارتباط الذي يحفظ الذاكرة.

الخطوة التالية كما يقول الباحثون، والتي لا تقل أهمية، كانت التحقق من ضرورة بقاء هذا الارتباط الثنائي مستمراً للحفاظ على الذكريات القديمة، فقرروا في تجربة مدروسة تعطيل هذا الارتباط بعد مرور فترة زمنية طويلة على تكوين ذكرى معينة في أدمغة الفئران. وهنا كانت المفاجأة: بمجرد تعطيل الارتباط، فُقدت الذاكرة تماماً، مما أكد على أن حفظ الذكريات على المدى الطويل يحتاج إلى استمرارية هذا الترابط بين البروتينين.

ويُبدي عدد من الخبراء تحفّظات خفيفة، مشيرين إلى أنه على الرغم من هذه النتائج الواعدة، فإن نماذج الذاكرة على المستوى الجزيئي في الدماغ ربما تكون أكثر تعقيداً من مجرد هذه البروتينات. ديفيد غلانزمان، الباحث في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، اعتبر أن الدراسة "خطوة هامة جداً إلى الأمام"، في حين يظلُّ داعياً إلى الأخذ بعين الاعتبار نظريات أخرى عن طرق تخزين الذاكرة داخل خلايا الدماغ.

ذو صلة

ومع ذلك، يظل هذا الاكتشاف إنجازاً هاماً ولغزاً شيقاً تزداد تفاصيله جاذبية مع كل دليل جديد. يخطط ساكتور وفينتون وزملاؤهم الآن لمتابعة البحث بنفس الشغف، لكشف مزيد من الأسرار التي تقف خلف آلية حفظ ذكريات قديمة قد يمر عليها عقود، والتعرّف على ما إذا كانت هناك جزيئات أخرى تساهم في هذه العملية بحنكة فريدة.

وفي الختام، فإن فهم هذه العلاقة المُذهلة بين الجزيئات يمكنه أن يساعد على تفسير كيف تُخزن عقولنا الذكريات، وكيف يُمكننا التفكير في استعادة ذكريات فُقدت أو ربما تخفيف أثر الذكريات الأليمة. وبينما تُضيف هذه الدراسة قطعة مهمة إلى أحجية الذكريات العصبية، لا يزال هناك بالتأكيد مزيد من التفاصيل المذهلة التي تستحق الاكتشاف في عالم العقل البشري الفاتن. وتذكّر دائماً عزيزي القارئ أن كل ذكرى، مهما بدت بسيطة، تحمل خلف كواليسها معجزة جزيئية صغيرة تستحق منا التأمل والاهتمام.

ذو صلة