كيف صنع أسلافنا “كمبيوتر فلكي” قبل آلاف السنين بينما نعتقد أنهم بدائيون؟

3 د
اكتشاف "آلية أنتيكيثيرا" يظهر عبقرية الإغريق في تطوير أدوات فلكية معقدة.
غوص العلماء قرب أنتيكيثيرا كشف حطام سفينة يونانية تعود للقرن الأول قبل الميلاد.
الآلية تستخدم تروس نحاسية لحساب مواقع الشمس والقمر والكواكب بدقة مدهشة.
الهياكل الميكانيكية المعقدة تعكس دمج العلوم النظرية بالإغريقية مع التطبيق العملي.
الاكتشاف يؤكد استمرار الإبداع والابتكار الإنساني عبر القرون.
هل يمكن أن تكون عبقرية الإنسان القديم قد وصلت إلى تصميم "حاسوب" فلكي معقد منذ أكثر من ألفي عام؟ هذا ما يؤكده أحدث ما توصل إليه علماء الآثار بعد رحلتهم الحديثة إلى حطام السفينة الشهيرة قرب جزيرة أنتيكيثيرا في اليونان، والتي أبهرت العالم مراراً، ليس فقط بكنوزها المادية، بل بأسرارها العلمية والتقنية التي بدأت تتكشف طبقة تلو الأخرى!
رحلة إلى الماضي في أعماق بحر إيجه
تخيل أن تغوص مع فريق من العلماء وسط مياه زرقاء عميقة بالقرب من سواحل اليونان، فتجد نفسك وجهاً لوجه مع حطام سفينة تجارية يونانية يعود تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد. هذا ما فعله فريق مشترك من جامعة جنيف والمدرسة السويسرية للآثار، بقيادة البروفيسور لورانز إي. باومر، الذي فضل دراسة هندسة وتصميم السفينة نفسها بدلاً من الانغماس في البحث عن الكنوز فقط. الخبراء وثقوا أكثر من 300 اكتشاف هام شمل قطع رخامية، فخاراً متنوعاً، وأمفورات من جزر يونانية معروفة مثل خيوس ورودس، وحتى أجزاء محفوظة من هيكل السفينة مع مسامير قديمة وطبقة خارجية عازلة.
هذه التفاصيل إذن لا تروي فقط قصة سفينة غارقة، بل تفتح نافذة على طرق بناء السفن والتجارة البحرية ومهارات البحارة اليونانيين. ربط هذه الاكتشافات بالتقنيات البحرية القديمة يمدنا بلمحات عن تطور الملاحة وعقلية الابتكار في ذلك العصر.
آلية أنتيكيثيرا: أقدم "حاسوب فلكي" في التاريخ
لكن شهرة موقع أنتيكيثيرا تجاوزت السفينة نفسها، بفضل الكنز الأفضل شهرة: "آلية أنتيكيثيرا". تخيّل جهازاً ميكانيكياً مصنوعاً من النحاس، يضم تروساً دقيقة التركيب وأسطوانات متشابكة، ودوره حساب مواقع الشمس والقمر والكواكب بدقة مدهشة تسبق زمنها بقرون. عند اكتشاف الآلية عام 1901، أذهلت العالم وغيّرت نظرتنا عن إمكانات الإغريق التقنية. حللها العلماء باستخدام تقنيات تصوير متقدمة كشفت عن نقوش مخفية وتفاصيل داخلية معقدة ترتبط بأحداث فلكية كاصطفاف الكواكب وحدوث الكسوفات.
الأبحاث الحديثة بقيادة خبراء مثل البروفيسور توني فريث من كلية لندن الجامعية أظهرت أن الآلية تستخدم نظام تروس يجمع تسعة مخارج مرئية، تمثل الشمس، القمر، العقد القمرية، وتتابع الكواكب الخمسة المعروفة آنذاك، ولكل منها تدريج خاص ومؤشرات منفصلة. حتى التعليمات المنقوشة على مواجهة الجهاز صُممت لتشرح للمستخدم كيفية قراءة كل حلقة وكل حدث فلكي متوقع.
ما يميز هذا الاختراع أن صُنّاعه اختاروا دورات زمنية معقدة لكنها مناسبة لبناء تروس عملية، بحيث تدور الآلية بسلاسة وتنقل الحركة لتعرض بيانات التقويم الفلكي، أطوار القمر، الكسوفات، والمواعيد الفلكية بدقة ملهمة.
"عبقرية" صنعت للأجيال
هذا الارتباط بين الفلك، الرياضيات والهندسة الميكانيكية جعل من الآلية تحفة لا مثيل لها. فالهياكل المتداخلة للأجزاء والحلقات، المؤشرات المتحركة، والدوائر المقسمة لملاحظة أحداث مثل القمر الجديد أو الكسوف، كلها توضح كيف دمج الإغريق العلوم النظرية مع التطبيق العملي في أداة واحدة.
وتشير الأدلة إلى أنهم استفادوا من معرفتهم بمناهج الرياضيات البابلية والنظريات الهلِّينية ليستخلصوا نظام تروس متداخل يستفيد من كل سِن ترس لتقليل الحجم مع الحفاظ على الدقة المدروسة. كان هذا بمثابة "حاسوب فلكي" يمكن حمله واستخدامه في حساب الأحداث بعصر لم يعرف الكهرباء ولا الإلكترونيات.
السياق الأثري لهذا الاكتشاف يدفعنا للتأمل في كيف يمكن لرؤية علمية جريئة أن تلهم أدوات وممارسات يومية عملية، وأن تجمع ما بين شغف العالم والنجار في آن واحد.
الحضارة تترك بصمتها في عمق البحر
مع استمرار الغوص في أسرار حطام أنتيكيثيرا، وتكثيف الدراسات حول البناء البحري وأسلوب حفظ البضائع باستخدام مواد مثل المصطكى (الراتنج الطبيعي)، يصبح المشروع بمثابة رحلة تكتشف فيها البشرية الفجوة بين المعرفة القديمة والحديثة.
الحفاوة العالمية بالآلية اليوم تؤكد أن الإبداع والابتكار لا عمر لهما، وأن إحدى أعظم إنجازات العلم ربما بقيت قروناً مدفونة في رمال القاع، قبل أن تطفو لتعيد رسم خريطة التاريخ.
خلاصة القول، يكشف بحث حطام أنتيكيثيرا وآليته الرائعة حجم المهارات والمعرفة التي وصلت إليها الحضارة اليونانية القديمة. إنها تذكرة حيّة بأن الشغف بالاكتشاف والابتكار يُمكن أن يتحدى حدود الزمان، ويبقي أسراره جاهزة لإلهام أجيال المستقبل والتواصل مع جذورنا المشتركة في حب المعرفة والتجربة.
---