ذكاء اصطناعي

لأول مرة: صور مباشرة تكشف خيوط “الشبكة الكونية” التي تنسج الكون

محمد كمال
محمد كمال

4 د

التقط علماء أوضح صور مباشرة لـ "الشبكة الكونية" لأول مرة.

هذا الاكتشاف يؤكد نظريات المادة المظلمة الباردة في نشوء الكون.

استخدم الباحثون جهاز MUSE لرصد انبعاثات هيدروجينية عبر ثلاثة ملايين سنة ضوئية.

تساعد الصور في فهم تدفقات الغاز الكوني وتوزيع المادة في المجرات.

الشبكة الكونية تفتح آفاقًا جديدة لدراسة العناصر الخفية في الكون.

في إنجاز علمي مذهل، أعلن باحثون من جامعة ميلانو-بيكوكا ومعهد ماكس بلانك لفيزياء الفلك عن رصد مباشر لخيوط مادية تربط بين مجرتين تستضيفان "كوازارات" (نجوم زائفة شديدة السطوع)، لتتحول النظرية التي لطالما أرّقت الفيزيائيين إلى حقيقة مرئية. نشر الفريق العلمي تفاصيل الاكتشاف في مجلة "Nature"، مؤكدين بذلك صحة فرضيات المادة المظلمة الباردة—أحد أهم روافد نماذج نشوء الكون وتطوّره.

هذه الخيوط الكونية، أو كما يصفها العلماء "شبكة المادة"، لطالما افترض العلماء وجودها بناءً على الحسابات الرياضية ومحاكاة الانفجار العظيم ونظريات المادة المظلمة. ولكن، ورغم ترسخ فكرة أن معظم مادة الكون لا نراها وأن ما ندركه لا يتجاوز 5% من كامل محتواه، بقي رصد هذه الخيوط مباشرةً تحديًا عصيًا على العلم حتى جاءت هذه اللحظة. وهنا يظهر مدى قدرة هذا الاكتشاف على دفع أبحاث الطاقة المظلمة وتفسير نشأة المجرات وتطورها.


كيف التقط العلماء صورة لهذه الشبكة الكونية؟

ولربط هذا الإنجاز بما سبقه من محاولات لفهم المادة المظلمة والطاقة الخفية في الفضاء، من المهم التعرف على الأدوات الفريدة التي ساعدت العلماء. فقد استخدم الباحثون جهازًا استثنائيًا يُسمى "مستكشف الطيف متعدد الوحدات" (MUSE)، والذي وضع على تلسكوب في غاية الضخامة يُسمى المرصد الأوروبي الجنوبي في تشيلي. تمكن هذا التلسكوب من التقاط انبعاثات باهتة جدًا من الهيدروجين تمتد عبر ثلاثة ملايين سنة ضوئية، وهو ما يُعد طفرة حقيقية في مراقبة أعماق الفضاء.

وهنا يجب أن نوضح للقراء أن المادة المظلمة، والتي تجعل نظرية "لامبدا-CDM" النموذج القياسي في علم الكونيات، لا يمكن رصدها مباشرةً بالعين المجردة أو حتى معظم التلسكوبات. العلماء يعتمدون عادة على آثارها غير المباشرة، مثل تأثيرها على سرعة دوران المجرات أو عدسات الجاذبية. في وسط هذه الصعوبات، جاءت هذه الصور الجديدة بمثابة الدليل البصري الذي طال انتظاره على وجود تيارات غازية "غير مرئية"، تشكل بمجموعها الطرق السريعة لتدفق المادة عبر الكون.

ننتقل الآن للتركيز على التأثير العلمي لهذا الاكتشاف، وأهميته في دعم نظريات نشأة المجرات وتوزيع المادة في الكون المعروف.


كيف تساعد الاكتشافات الجديدة في فهم نشأة المجرات؟

هنا تتقاطع الصور الجديدة مع النظريات المطروحة حول تشكل المجرات: إذ تؤكد أن الغاز الكوني يتدفق عبر خيوط مترابطة، وليس من تجمعات منفصلة كما كان يُظن في البدء. هذا الاكتشاف يدعم بقوة فرضية أن المجرات ليست كائنات معزولة، بل تستمد مادتها اللازمة لتكوين النجوم من هذه الشبكة المتشابكة التي تشبه شرايين الكون أو شَبَه عروق كونية هائلة.

وبحسب الباحث دافيدي تورنوطي من جامعة ميلانو-بيكوكا، والذي تولى قيادة الفريق العلمي، فإن تتبع هذا الضوء الباهت الصادر عن الخيط الكوني الذي وصل إلى الأرض بعد أكثر من 12 مليار سنة، سمح لهم بدراسة الحدود الفاصلة بين المادة التي تعيش داخل المجرة وبين الغاز المنتشر في هذه الشبكة الكونية. يوفر ذلك للمرة الأولى قياسًا مباشرًا يرسم حدود هذا التداخل المذهل بين "عالم المجرات" و"البنية الكونية الكبرى".

وفي سياق محاولات العلم العالمية لإثبات وجود المادة المظلمة، فإن ذلك يعزز ثقة الفيزيائيين بنماذجهم الرياضية التي كانت بحاجة لجرعة واقعية من الدلائل المرئية، ويقوي من مكانة الأدوات الاستثنائية كالمرصد الأوروبي، وتلسكوبات "جيمس ويب" و"إيكلِد" ومستقبل التصوير العملاق في مرصد فيرا روبين.

هكذا يستمر البحث للغوص أعمق في الشبكة الكونية، فكل اكتشاف يفتح بابًا لتحليل المزيد من الغاز البارد، المجرات القزمية، عمليات تشكل النجوم والمواد الأولية التي تحدد مصير الكون.


الطريق السريع" للمادة... ما الذي يعنيه للبشرية؟

الحديث عن "طرق سريعة جاذبية" داخل الفضاء قد يبدو للوهلة الأولى أقرب للخيال العلمي، إلا أنه مفتاح مهم لفهمنا كيف نما الكون من تفاصيله الأولى بعد الانفجار العظيم إلى بناء المجرات العملاقة وتحديد فضاءنا الكوني الحالي. فهذه الخيوط ليست فقط جسورًا تنقل الغازات الضرورية، بل قد تبقى لفترة طويلة الأحجية التي تحتاج لمزيد من الأدلة التكميلية حول طبيعة المادة المظلمة والطاقة الغامضة.

ذو صلة

عند وضع هذه النتائج في سياق أوسع، فلا شك أن كل صورة جديدة للشبكة الكونية تدفع الحدود المعرفية إلى الأمام. استبدال مصطلحات مثل "طرق المادة" بمفردات أقوى كـ"شرايين الكون" قد يعمق الوقع اللغوي، فيما يجعل الربط بين الأدوات التقنية والاكتشافات العلمية النص أكثرًا ترابطًا وإقناعًا للقارئ. ولا شك أن الاستمرار في تطوير تلسكوبات أكثر حساسية أو مضاعفة التعاون بين الفرق العلمية سيمنحنا لاحقًا تفاصيل أدق عن العناصر الخفية التي تجعل كوننا بهذا التعقيد والثراء.

بذلك نرى أن صور الشبكة الكونية ليست مجرد إضافة جميلة لكتب الفيزياء الفلكية؛ بل هي نافذة جديدة على فهم جذور المادة، نشأة المجرات، ودور القوى الخفية في نسيج الزمان والمكان. فربما يحمل لنا المستقبل مزيدًا من المفاتيح لفك ألغاز الكون—بشرط أن لا نفقد فضولنا العلمي ولا رغبتنا في إعادة ربط التفاصيل البنيوية بخيوط منطقية جديدة في كل مرة.

ذو صلة