مخلوقات بحرية شبحية تزرع “فمًا ثانيًا” في الجبهة!

3 د
اكتشف علماء جامعة واشنطن أسماكًا بأسنان تنمو بين عينيها.
الأسنان على الجبهة تُستخدم للإمساك بالإناث أثناء التزاوج.
تنتمي الأسماك إلى فصيلة قديمة تفرعت عن القروش وتظهر خصائص بدائية.
فتح الاكتشاف آفاقًا جديدة لفهم تاريخ تطور الأسنان لدى الفقاريات.
بين أمواج سواحل واشنطن الأمريكية، يسبح كائن بحري غريب الشكل يطلق عليه اسم "سمك الفأر المرقط" أو ما يعرف بين العلماء بـ"أسماك الأشباح". الغرابة لا تكمن في اسمها وحسب، بل في الاكتشاف الذي هزّ أوساط علم الأحياء مؤخراً: لهذه الأسماك أسنان حقيقية تنمو بين عينيها، في موضع لم يسبق أن شوهد فيه أسنان لدى أي حيوان آخر!
منظور جديد لعلم تشريح الأسنان في الكائنات البحرية
لطالما اعتقدنا أن الأسنان مرتبطة بالفم فقط، لكن فريقاً بحثياً من جامعة واشنطن قلب هذا المفهوم رأساً على عقب حين درس عينات عديدة من أسماك الفأر المرقط التي ظهرت بكثرة في محيط سان خوان قرب بوجيه ساوند شمال غرب الولايات المتحدة. وجدت الدراسة، المنشورة في دورية علمية مرموقة، أن الذكور البالغة من هذه الأسماك تمتلك زائدة بارزة بين العينين – تسمى "تانكيولوم" – تحتوي على صفوف من الأسنان الحقيقية وليست مجرد نتوءات جلدية كما كان يُظن سابقاً. ويأتي هذا التغير المفاجئ في النظرية استناداً إلى فحص دقيق بتقنيات المسح ثلاثي الأبعاد ودراسة عينات الأنسجة، حيث لاحظ العلماء أن نفس الطبقة النسيجية التي تنتج الأسنان في الفم (الدِّبْقُ السِّنّي) هي التي مسؤولة عن إنتاج تلك الأسنان الرأسية.
وهذا الاكتشاف اللافت يفتح الباب أمام إعادة النظر في تاريخ تطور الأسنان لدى الفقاريات. إذ يتضح الآن أن برنامج النمو الذي كوّن الأسنان قد يكون هاجر من الفم إلى أجزاء أخرى بالجسم في بداية تطور الكائنات الحية، ما يعد ثورة صغيرة في فهمنا للأحياء القديمة والهياكل التطورية.
ارتباط التكاثر ببنية التانكيولوم الغريبة
للبحث أبعاد أخرى تتخطى عالم التشريح: فتلك البنية "التانكيولوم" ليست زائدة تشريحية فقط. الذكور وحدهم من يطورونها بعد البلوغ، حيث تتحول من كتلة بيضاء تشبه الفول السوداني إلى أداة معقوفة وحادة عند موسم التزاوج. وظيفة التانكيولوم الأساسية هي مساعدة الذكر على الإمساك بالأنثى أثناء عملية التزاوج تحت الماء – إذ تفتقر أسماك الأشباح للأذرع، فتستعيض بهذه البنية المميزة التي تشبه الخطاف لكنها في الواقع مزودة بأسنان. ومعرفة أن هذه "الخطاطيف" هي في الأصل أسنان حقيقية يضيف بُعداً مذهلاً لرؤيتنا عن وسائل التكيف البيولوجية في أعماق البحار.
وبالعودة لهذا التكيف الفريد، ندرك أن ارتباط الهياكل السنية بعمليات التكاثر ليس جديداً على بعض الأسماك مثل أسماك القرش والشفنين، لكنه يصل هنا إلى حد متطرف وغير مسبوق مع أشباح البحر هذه، مما يثبت أن الطبيعة لا تتوقف عن إعادة تدوير الأدوات والتصاميم عبر العصور.
من كائنات ما قبل التاريخ إلى أيامنا: نافذة على التطور
أسماك الفأر المرقط – أو الكايميرا كما يسميها العلماء – تنتمي لفصيلة قديمة من الأسماك الغضروفية تفرعت عن أسلاف مشتركين مع القروش قبل ملايين السنين، وتحتفظ حتى اليوم بخواص بدائية تعود للأزمنة السحيقة. طولها يصل إلى قدمين، وجسدها ينتهي بذيل نحيف طويل هو نصف طولها تقريباً. المدهش أن كلا الجنسين يبدأ في تشكيل التانكيولوم مبكراً خلال مراحل النمو، إلا أن الاختلاف يظهر فقط عند الذكور البالغة، ما يعزز فرضيات العلماء حول الدور الجنسي الطاغي لهذا التركيب الفريد.
وهذا الربط بين تاريخ التطور وبنية الجسم الحالية يمنحنا نافذةً نادرة على العمليات التطورية القديمة، إذ أصبح من الواضح أن أنظمة إنتاج الأسنان كانت أكثر مرونة وشمولية عبر العصور مما كنا نتصور.
مستقبل علم التطور ونظرتنا إلى الأسنان
في ضوء هذا الكشف الحديث، بات على علماء الأحياء النظر من جديد للزوائد الشوكية في الكائنات الفقرية حول العالم، فربما لا تكون مجرد عظام أو غضاريف، بل أسنان متخفية في أماكن غير معتادة! كبار العلماء وصفوا هذا الإنجاز بكونه أول مثال واضح لتركيب أسنان حقيقية خارجة عن الفك عبر سجل التطور. هذا يدفعنا للتساؤل: كم من أسرار التطور ما زالت مخبأة في خزائن المحيطات وأجسام كائناتها العجيبة؟
وهكذا، يكشف لنا هذا الاكتشاف جانباً مبهراً من مرونة الأنظمة البيولوجية، ويؤكد أن فهمنا لتركيب الأسنان لم يعد محصوراً بالفم وحده، بل امتد ليشمل مناطق غير متوقعة كالجبهة بين العينين في أعماق البحار، وهو ما يثري معرفتنا بتاريخ الحياة وتنوعها المعجز.