مشروع “إيتر”… البشر يحاولون صناعة شمس على الأرض!

4 د
يسعى مشروع "إيتر" لاستنساخ طاقة الشمس على الأرض عبر تقنية الاندماج النووي.
تجمع 35 دولة لتفعيل "إيتر" في فرنسا، كبادرة تعاون علمي عالمي غير مسبوق.
المفاعل سيحتوي البلازما في "وعاء التفريغ" لتصل الحرارة إلى 150 مليون درجة مئوية.
الهدف هو تحقيق توليد طاقة تفوق المعطاة بعشر مرات بحلول عام 2039.
يُظهر "إيتر" أن طاقة الاندماج قد تصبح حقيقة تُلبّي احتياجات الطاقة النظيفة.
يحلم العلماء منذ عقود بتحويل الخيال إلى واقع: إنتاج طاقة لا تنضب، نظيفة وآمنة، كما يفعل قلب الشمس كل يوم. اليوم، مع انطلاق المرحلة الحاسمة من بناء مفاعل "إيتر" شمالي فرنسا، يبدو أن هذا الحلم يقترب خطوة إضافية من التحقق. المشروع العملاق الذي تجمع حوله 35 دولة، يثير آمالًا ضخمة في فتح عصر جديد للطاقة من خلال توظيف تقنية الاندماج النووي، أو ما يسمّى اصطلاحًا "ترويض قوة النجوم".
في قلب الريفييرا الفرنسية، يعمل آلاف المهندسين بدقة متناهية لتركيب قلب المفاعل المعروف باسم "وعاء التفريغ"، وهو أشبه بكبسولة عملاقة مزدوجة الجدار يصل قطرها إلى 19 مترًا. ستكون هذه الحجرة الفولاذية ساحة حبس البلازما – وهي حالة فيزيائية للمادة تشبه إلى حد كبير ما يجري في قلب الشمس – والتي ستسخن حتى حرارة مهولة تصل إلى 150 مليون درجة مئوية. لتقريب الصورة أكثر، هذه الحرارة تزيد على عشرة أضعاف حرارة مركز الشمس ذاته! ويزن كل جزء من الهيكل الأساسي حوالي 440 طنًا، تشحن من أوروبا وكوريا الجنوبية. وعندما يكتمل اللحام والتركيب، سيبلغ الوزن الإجمالي أكثر من خمسة آلاف طن، أي أثقل من سفينة حربية ضخمة.
وانطلاقًا من أهمية هذه المرحلة، أوكلت مهمة تجميع الوعاء الفولاذي هذا الصيف إلى شركة "ويستنغهاوس" الأمريكية بعقد يبلغ 180 مليون دولار. المهمة ليست تقليدية، إذ يُطلب من المهندسين لحام القطع بدقة شبه مطلقة، مع تعويض ما قد ينتج عن الحرارة من تمدد أو تشوه معدني خلال العمل. الخطأ غير مسموح به هنا إطلاقًا؛ فأي لمسة من البلازما للجدار الداخلي تعني فشل تجربة الاندماج برمتها. ولذلك، يعمل الفريق الأمريكي جنبًا إلى جنب مع شركتي "أنسالدو نوكليير" و"والتر توستو" الأوروبيتين، اللتين شاركتا منذ البداية في تصميم بعض أهم المكوّنات.
التعاون العالمي: عندما تتحد شعوب العالم حول حلم مشترك
هذا المشهد الفريد على الساحة الفرنسية ليس مجرد مشروع محلي، بل رمز نادر لقوة التعاون العلمي العابر للقارات. التحالف يضم الولايات المتحدة، الصين، اليابان، روسيا، كوريا الجنوبية، وجميع دول الاتحاد الأوروبي، ضمن أكبر تحالف علمي عالمي على الإطلاق. كل دولة تضع إمكانياتها في خدمة المشروع: أوروبا تشرف على تصنيع خمسة من القطاعات العملاقة للوعاء، وكوريا الجنوبية تتكفل بأربعة أخرى، بينما تقدم الولايات المتحدة مغناطيسات فائقة التوصيل بطول يتجاوز 18 مترًا، وتساهم اليابان بجزء حيوي من موصل المغناطيس المركزي. هكذا يتحول موقع "كاداراش" الفرنسي إلى ورشة تركيب ضخمة، حيث يتعامل الفنيون مع شحنات معدنية ووحدات بالغة التعقيد كما لو كانوا يركّبون أحجية هائلة بدقة عالية. وهذا يبرز كيف أن تقاسم الأدوار والمسؤوليات بات عنصرًا أساسيًا يسعى الجميع من خلاله لتحقيق هدف واحد هو توليد الطاقة بإنتاجية تفوق استهلاكها بعشر مرات (ما يسمّى عامل التضخيم "كيو 10").
ومع تقدم تجميع الهيكل، تثبت التجربة أن اللغة العلمية المشتركة تتجاوز الخلافات والسياسات، لتمنح المشروع لقب "أمم متحدة نووية"، حيث يتحدث الجميع بلغة الهندسة والتكنولوجيا.
ومن هنا، تفرض الحاجة إلى الحديث عن الجدول الزمني والتحديات الكبرى.
طريق طويل نحو لحظة "الإشعال"
بالرغم من أن المشروع أُطلق على أمل تحقيق أول "بلازما" عام 2018، إلا أن التعقيدات الهندسية، التعديلات التصميمية، وقضايا التمويل تسببت في تأخير الإنجاز النهائي. وفق الجدول المُحدّث مؤخرًا، من المتوقع بدء مرحلة الاندماج بين نظائري الديوتيريوم عام 2035، يليها رفع مستوى الطاقة المغناطيسية والتيار الحاصل في البلازما سنة 2036، وصولاً إلى التشغيل الكامل بتفاعل الديوتيريوم مع التريتيوم عام 2039. الهدف هو توليد نصف غيغاوات (500 ميغاوات) من طاقة الاندماج، مقابل 50 ميغاوات فقط تدخل في تسخين البلازما، وهو الإنجاز المنشود الذي سيمهد الطريق الجدي لتشغيل محطات تجارية للطاقة في المستقبل، بدايتها المرتقبة مع مشروع "ديمو" التالي.
وهكذا تتضح صورة المشروع كاختبار واقعي للأسئلة الكبرى: هل يمكن فعلاً للبشر تسخير طاقة الشمس ضمن مفاعل آمن وفعال وقادر على تلبية احتياجات العالم المتزايدة للطاقة النظيفة؟
بين أحلام الأمس وروح العصر الجديد
لطالما وُصفت طاقة الاندماج النووي بأنها "الكأس المقدسة" في عالم الطاقة: قدرة شبه لامتناهية، بلا انبعاثات كربونية، وأكثر أمانًا بمراحل من الانشطار النووي التقليدي الذي يولّد نفايات مشعة طويلة الأجل. لكن تجاوز تحديات الفيزياء والهندسة كان حتى وقت قريب ضربًا من الخيال، وظلت الآمال تراوح مكانها. اليوم، مع تحول عملية التركيب المعقدة في "إيتر" من الورق إلى أرض الواقع، بدأت القناعة تسري بأن حلم احتواء قوة النجوم لم يعد فكرة بعيدة أو أمنية غامضة، بل مشروع واقعي قيد الإنجاز، يتقدم بشكل ملموس كل يوم بفضل جهود أجيال من العلماء والمهندسين.
وهكذا، يبدو أن رحلة ITER الطويلة دخلت حقبتها المفصلية. صحيح أن إشعال أول تفاعل اندماجي فعلي ما زال على بعد سنوات، لكن التركيب الدقيق والحيوي لقلب المفاعل يُمثل انتقالًا نوعيًا من مرحلة التصميم والتنظير إلى عالم التنفيذ العملي. في أرجاء جنوب فرنسا الهادئة، يجري حرفيًا بناء مستقبل الطاقة قطعة قطعة، وسط ترقب علمي وبيئي عالمي لما ستسفر عنه أكبر مغامرة هندسية عرفها الإنسان.