ذكاء اصطناعي

منذ 1977… فوياجر 1 تصل لأبعد نقطة بلغها البشر في الفضاء

محمد كمال
محمد كمال

4 د

أطلقت ناسا "فوياجر 1" عام 1977، لتصبح أبعد مركبة تتجاوز النظام الشمسي.

التقطت صورًا مذهلة للمشتري وزحل وكشفت عن براكين قمر "آيو".

"السجل الذهبي" يحمل رسائل موسيقية وإنسانية لمخلوقات الكون.

ما زالت ترسل إشارات ضعيفة رغم تراجع قدراتها بعد أربعة عقود.

"النقطة الزرقاء الباهتة" ألهمت بفلسفة وجود الأرض في الكون الشاسع.

في عام 1977، خرجت مركبة غير مأهولة من الأرض لتسجل اسمها كأول رسالة بشرية تعبر حدود النظام الشمسي. إنها "فوياجر 1" التي ما زالت - رغم أربعة عقود ونصف من السفر عبر الفضاء - تُدهش علماء وكالة ناسا وتمنحنا رؤى مذهلة حول الكون الفسيح. فكيف بدأت حكاية هذه الرحالة الفضائية؟ وما الأسرار التي اكتشفتها في جولتها الكونية الفريدة؟

من الأرض إلى تخوم الفضاء بين النجوم

حملت فوياجر 1 في بدايات رحلتها رسالة أمل من كوكبنا. فقد أطلقتها وكالة الفضاء الأمريكية يوم 5 سبتمبر 1977، بعد أسبوعين فقط من شقيقتها "فوياجر 2". وقد استغلت الوكالة حينها محاذاة نادرة للكواكب العملاقة تسمح للمسبار بأن يستخدم جاذبية الكواكب كوسيلة "مقلاع" لتوفير الوقود والانطلاق بسرعة هائلة عبر النظام الشمسي. وإلى اليوم، تحتفظ فوياجر 1 بلقب أبعد مسبار أرسلته البشرية، حيث تجاوزت المسافة بينها وبين الأرض 23 مليار كيلومتر (قرابة 14.6 مليار ميل) وتتحرك بسرعة تقارب 61 ألف كيلومتر في الساعة. هذا الإنجاز غير المسبوق يربط مباشرة بين تصميم الرحلة وخطط ناسا الطموحة لاستكشاف الفضاء العميق.

ولا تقف حكاية المسبار عند الأرقام القياسية فقط، بل امتدت إنجازاته إلى اكتشافات علمية غيرت نظرة العلماء لعمالقة الكواكب ولبعض أقمارها الغامضة. فخلال مروره بالقرب من المشترى وزحل، التقطت فوياجر 1 صوراً مذهلة للغلاف الجوي والسحب الملونة، وأرسلت بيانات عن الحلقات الرقيقة والأقمار المجهولة مثل "ثيبي" و"ميتيس". ويُذكر أنها سجلت أولى ملاحظات عن البراكين الناشطة على قمر "آيو" وقشرة جليدية تحت سطح "أوروبا" يُحتمل أن تحوي محيطاً مائياً ضخماً - وهو ما فتح باب التساؤلات حول إمكانية وجود حياة خارج الأرض.

أما إنجازها الأعظم فكان في الخامس والعشرين من أغسطس 2012، حين أعلن رسمياً دخولها "الفضاء بين النجوم". وهذه المنطقة خارج حدود "المجال الشمسي" أو "الهليوسفير" – الفقاعة المغناطيسية التي تشكلها الشمس حول نظامها – ليست مجرد مساحة فارغة، بل مختبر طبيعي يرصد فيه العلماء تفاعل الرياح الشمسية مع الجسيمات القادمة من باقي مجرات الكون. هذه اللحظة شكّلت نقطة فارقة في تاريخ البعثات الفضائية، لأنها أتاحت لنا لأول مرة دراسة بيئة الكون خارج تأثير شمسنا بشكل مباشر.

"السجل الذهبي": رسالة الأرض لمخلوقات الكون

وما يضفي طابعاً إنسانياً فريداً على فوياجر 1، هو السجل الذهبي الشهير الذي تحمله في أعماقها. تخيل أن هناك قرصاً ذهبياً قُطره 30 سنتيمتراً، يحمل موسيقى بيتهوفن وصيحات حيتان وضحكات أطفال وتحيات بخمس وخمسين لغة، مرفق برموز توضح موقع الشمس بالنسبة للنجوم النابضة (الباليسارات). الهدف من السجل كان بسيطاً في ظاهره: لو عثر مخلوق عاقل في يوم ما على المسبار التائه وحاول معرفة مصدره، سيكون بوسعه الاستماع لما أبدعه الإنسان يوماً على هذا الكوكب الأزرق الصغير. هذا التفصيل الإنساني يربط رؤيتنا العلمية بأحلام التواصل مع حضارات أخرى.

وبفضل أنظمة الطاقة المعتمدة على مولدات حرارية نووية تعمل على البلوتونيوم، ما زال المسبار نشطاً حتى اليوم، رغم أن قوته الكهربائية تتناقص. ورغم أن شريحة الذواكر فيه أقل بكثير من أي هاتف ذكي اليوم، وقدرته على بث البيانات أبطأ آلاف المرات من سرعات الإنترنت، فإن فوياجر 1 مستمرة في إرسال إشاراتها الضعيفة من أقاصي الكون – في دليل مبهر على عبقرية البشر في مواجهة المستحيل.

الأسرار العلمية والاكتشافات المتواصلة

وهذا يدفعنا للتساؤل: ما الذي جلبته لنا هذه الرحلة الطويلة من كنوز العلم؟ منذ عبور حدود النظام الشمسي، نجحت فوياجر 1 في قياس مستويات الأشعة الكونية، وكشفت عن تغير كثافة الإلكترونات والمجالات المغناطيسية بين الفضاء الشمسي والنجمي. على سبيل المثال، أظهرت بياناتها أن منطقة ما بين النجوم أكثر كثافة الكترونياً مما كان يُعتقد، كما رصدت تفاعل الجسيمات الشمسية مع الرياح القادمة من نجوم أخرى. هذه النتائج ساهمت في تعديل فهمنا لبيئة الفضاء بين النجوم، وغيرت مفاهيم علمية حول طريقة انتشار المواد النشطة في الكون.

ليس هذا فحسب، إذ يعيش المسبار تحديات تقنية مع تقدمه في العمر. ففي عام 2017، استخدمت ناسا نظام دفع احتياطي للمرة الأولى منذ عقود لإعادة توجيه المسبار والتأكد من استمرار قدرته على التواصل مع الأرض. هذه التجارب تظهر مرونة التصميم وديمومته، رغم أن العديد من أجهزته الأصلية قد أُغلقت للحفاظ على الطاقة، وتبقى أربعة فقط تعمل لغاية اليوم. فوق كل ذلك، تبرهن فوياجر 1 على جدوى الاستثمار الطويل الأمد في مشاريع الفضاء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدروس التي استفدنا منها حول النظام الشمسي والمجال المغناطيسي الشمسي.

ذو صلة

"النقطة الزرقاء الباهتة": نظرة فلسفية للوجود

وهذا يقودنا إلى واحدة من أعمق الإشارات الرمزية في رحلة فوياجر 1. ففي عام 1990، التفتت الكاميرا نحو الأرض والتقطت صورة شهيرة يظهر فيها كوكبنا كنقطة زرقاء باهتة في بحر أسود شاسع. هذه الصورة ألهمت العالم، وجسدت تواضعنا أمام اتساع الكون، ورسّخت فكرة أن الأرض – بكل حياتنا ومشاعرنا – ليست سوى بقعة صغيرة في مجرة ضخمة.

خاتمة: قصة أمل وحكمة كونية

مع اقتراب نهاية قدرة فوياجر 1 على التواصل بحلول عام 2025 على الأغلب، تظل رسالتها وأثرها العلمي والثقافي مستمران. فهي ليست مجرد جهاز عابر للنجوم، بل سجل ينبض بالحكاية الإنسانية والسعي لفهم أسرار الكون. وهكذا تؤكد فوياجر 1 أن الشغف بالاستكشاف والإيمان بقدرة العلم على تجاوز حدود الخيال سيبقيان دوماً جزءاً أصيلاً من روح الإنسان الباحث عن المعرفة.

ذو صلة