من أعماق التاريخ: جدارية ثلاثية الأبعاد عمرها 4000 عام تكشف كيف رأت حضارات بيرو الكون!

3 د
اكتشاف جدارية عمرها ٤ آلاف عام في بيرو يكشف أسرارًا قديمة.
تصور الجدارية طائرًا مفترسًا يعكس رمزية الكون القديمة.
تبين الرموز علاقات معقدة بين الإنسان والطبيعة والطقوس الروحية.
تواجه الجدارية تحديات من التمدد العمراني والتنقيب غير المشروع.
يسعى العلماء لحماية الموقع لضمان حفظ التراث للأجيال المقبلة.
وسط واحة أثرية هادئة في وادي تانغوتشي الساحلي، أدهش فريق من علماء الآثار العالم باكتشاف فريد: جدارية ضخمة ومعقدة تعود إلى أكثر من أربعة آلاف سنة. الجدارية، التي تزين جدران معبد في موقع هُواكا يولاندا، تقدّم نافذة نادرة على الحياة الدينية والنظام الاجتماعي في الحضارات القديمة التي قامت في بيرو.
منذ إعلان الاكتشاف الذي لاقى صدى كبيراً في وسائل الإعلام العالمية، بدأت تفاصيل هذه التحفة تثير الفضول حول دلالات رموزها وزخرفتها الأخّاذة. الجدارية تمتد لحوالي ستة أمتار بطول يقارب تسعة أقدام، ولفتت الأنظار بألوانها الزاهية، خاصة الأزرق، الأصفر، الأحمر والأسود، وبرسمها البارز ثلاثي الأبعاد.
الأيقونة المركزية للجدارية، وهي طائر مفترس بجناحين مفتوحين تتحلى رأسه بنقوش هندسية معقدة، أعادت تسليط الضوء على التصوير الرمزي للكون في الفن القديم، حيث تداخلت رموز الطيور، الكائنات الأسطورية، الأسماك، وشباك الصيد لتروي قصة التلاحم بين الإنسان والطبيعة ورموز السماء.
رحلة نحو عالم اجتماعي متطور
هذه الجزئية من الجدارية تُظهر بوضوح مدى التعقيد الذي وصلت إليه المجتمعات الساحلية قبل آلاف السنين. تشرح د. آنا سيسيليا ماوريسيو، قائدة فريق الحفر من جامعة البابوية الكاثوليكية في بيرو، أن رموز الجدارية تعكس وجود طبقات اجتماعية ونخب روحية تمثلت بالشامانات (الكهنة-السحرة)، الذين كانوا يتمتعون بمعرفة متقدمة في علم النباتات الطبية والفلك. وتؤكد ماوريسيو أن الصور المنقوشة توحي بأن الطقوس الروحية في تلك الفترة كانت تحت إشراف نخبة تجمع بين السلطة الدينية والعلمية في آن واحد.
هذا الارتباط بين الرمزية الفنية والواقع الاجتماعي يقودنا لفهم أعمق لتطور المجتمعات في أمريكا الجنوبية وولادة المعتقدات المرتكزة على علاقة الإنسان بالقوى الكونية.
رموز الطقوس والتحولات الروحية
أحد أبرز مشاهد الجدارية يكشف عن تحول تصويري من الإنسان للطائر، وهي إشارة يُحتمل ارتباطها بطقوس عبور روحي، حيث يُعتقد أن الشامان كان يجرّب حالات وعي متبدّلة بفعل استعمال نباتات مهلوسة، مثل صبار سان بيدرو الشهير في ثقافات جبال الأنديز. هذه التفاصيل تُبرز الأبعاد الدينية والسحرية التي شكّلت محور حياة المجتمعات آنذاك، خاصة مع الارتباط الوثيق بين البحر، الأسماك، أدوات الصيد وطبيعة المعتقدات التي جسدتها هذه الجدارية.
هذا السياق الطقسي والمعرفي يربط تصوّر الإنسان القديم للكون بالعناصر المتغيرة من حوله، من تقلبات مناخية كظاهرة النينيو إلى موقع قرى الصيادين ضمن شبكات التجارة والطقوس.
ولم تقتصر أهمية الجدارية على مضمونها الفني أو الديني، بل امتدت لتفتح نقاشاً حول أنماط الاستقرار البشري بمنطقة الساحل، حيث تُشير الأدلة إلى نشوء مجتمعات زراعية وصيادين متقدمة، وأن بناء المعابد وتزيين جدرانها كان جزءاً من تأسيس مراكز عمرانية ضخمة خلال الحقبة التشكيلية بين الألفية الثانية والأولى قبل الميلاد.
المحافظة والتحديات المستقبلية
رغم تلك الأهمية التاريخية، يواجه موقع هُواكا يولاندا تحديات خطيرة تهدد بقاء تلك التحفة الإنسانية. ولا زال الموقع في حالة هشّة بدون حماية قانونية كافية من وزارة الثقافة البيروفية أو السلطات المحلية. ولعل أبرز المخاوف اليوم هو اتساع التمدد العمراني، أنشطة الزراعة، والتنقيب غير المشروع، والذي ألحق بالفعل ضرراً بعدد من الآثار المجاورة.
خلال الأعوام الأخيرة، نادت ماوريسيو وزملاؤها بضرورة الإسراع في إعلان حماية الموقع وتحويله إلى محمية رسمية، مُشددين على أن الحفاظ على هذه الجدارية مسؤولية حضارية وواجب على الجميع، حتى لا تضيع أسرار نشأة أولى الحضارات الساحلية للأبد.
وهذا المسار الوقائي، الذي تفرضه حساسية القطع الأثرية من التغيرات البيئية والبشرية، يكشف عن مدى ترابط عمليات البحث الأثري بجهود الدولة والمجتمع المدني لضمان نقل التراث للأجيال المقبلة.
ختاماً، يعلّق العلماء أهمية بالغة على نتائج الأبحاث في هُواكا يولاندا، ليس فقط لفهم الطقوس والأساطير والعمران في زمن غابر، بل أيضاً لمساعدتنا على إعادة تصور العلاقة بين الإنسان القديم وعالمه الطبيعي والديني. الجدارية تقف اليوم شاهداً خلاباً على عبقرية الإبداع الإنساني وعمق الأسرار التي مازالت تنتظر من يكشف عنها الستار.