من صحراء الشرق الأوسط إلى ناميبيا: علماء يكتشفون كائناً غامضاً يتحدى التفسير

3 د
اكتشف العلماء أنابيب غامضة ومنظمة في صحارى السعودية وعُمان وناميبيا.
يشتبه الباحثون في أن هذه الأنابيب نتاج كائنات حية دقيقة مجهولة.
الأنابيب ليست من نتاج السيانوبكتيريا أو الفطريات بسبب غياب الدلائل الكيميائية.
تثير الأنابيب أسئلة حول الظروف البيئية القاسية وقدرة الحياة على الاستمرار.
المهمة الآن هي تحديد هوية الكائنات الغامضة وكشف طبيعتها.
ليس كل ما نجهله يكمن بعيداً في أعماق المحيط أو أعالي الفضاء. أحياناً تُخبئ الأرض من حولنا أسراراً مذهلة تجاوز فهمنا الحالي. في قلب صحارى قاحلة تمتد عبر السعودية وعُمان وصولاً حتى ناميبيا، اكتشف العلماء مؤخراً أشكالاً غريبة وغامضة من أنابيب دقيقة ومنظمة، تشق الحجر الجيري والرخام بطريقة منسقة وغير عشوائية، تاركة الباحثين في حالة حيرة وتساؤل: هل تكون هذه الأنابيب نتاج شكل من أشكال الحياة المجهرية لم نكتشفه بعد؟
هذا اللغز بدأ حين كشف التعرية عن شبكة غريبة من أنفاق مجهرية محفورة داخل الأحجار الكلسية والماربل. كان البروفيسور كيس باشير، من جامعة يوهانس قوتنبرغ بألمانيا، أول من لاحظ تلك التراكيب الغامضة. ومن الوهلة الأولى أدرك الأستاذ الجامعي المخضرم أن هذه الأنابيب والأنفاق مستحيل أن تكون نتاج عملية جيولوجية معتادة. وأمام غرابة الموقف، سارع الباحثون إلى إجراء تحاليل دقيقة للمادة الموجودة داخل هذه الأنابيب.
بحث علمي يكشف عن دلائل حياة مجهولة
في تحليلاتهم الأولية، وجد الباحثون آثاراً بيولوجية واضحة، ما دفعهم لطرح فرضية أن هذه الأنابيب أنشأتها كائنات حية دقيقة، ربما كانت مجهولة سابقاً. لكن التحدّي الأكبر تمثل في محاولة تحديد هذا الكائن، خاصة مع ظروف الصحراء القاسية جداً التي تحيط بالاكتشاف، ما أثار أسئلة حول كيف استطاعت هذه الحياة أن توجد وتستمر داخل طبقات الصخور في بيئة تنعدم فيها تقريباً شروط الحياة كما نعرفها.
تتميز هذه البيئات الصحراوية القاسية بأنها موطن للمخلوقات المتطرفة (المعروفة بالإكستريموفيل)، وهي تلك الكائنات المجهرية التي بمقدورها الاستمرار والازدهار في ظروف تبدو لنا مستحيلة. ومن ضمن هذه الكائنات، توجد البكتيريا والفطريات وحتى الحزازيات التي تعيش داخل الصخور نفسها، وهو ما يُعرف علمياً بظاهرة "الإندوليثية".
من هنا بدأ الفريق العلمي يفحص كل فرضية على حدة. وعلى سبيل المثال، كانت السيانوبكتيريا (البكتيريا الزرقاء التي تعتمد على الشمس في القيام بعملية التركيب الضوئي) احتمالاً تم استبعاده مباشرة، لأن هذه الأنابيب المكتشفة موجودة في طبقات صخرية عميقة ومظلمة، ولا يمكن لأشعة الشمس أن تصل إليها.
كذلك تبيّن أن خيار الفطريات—التي عادةً ما تنتج أنزيمات تساعدها في الهضم والتحلل—مستبعد أيضاً، فقد أظهر التركيب الكيميائي للصخور المحيطة بها عدم وجود أية آثار لهذه الإنزيمات. بل إن الشكل الهندسي المنتظم جداً، والتوزيع الدقيق والمتجانس لهذه الأنابيب، بدت علامات تؤكد أن من يقف خلف هذا النشاط هو كائن آخر تماماً لا يشبه ما عهدناه من الفطريات.
هذه الأدلة الكيميائية المحددة والدقيقة كانت أقوى حجة لدى الباحثين، حيث أكّد البروفيسور باشير أن هذه "التفاعلات الكيميائية والآثار تحسم الأمر بأن الأصل بيولوجي وليس جيولوجياً". وبذلك، أصبحت مهمة الباحثين تتركز أكثر في كشف هوية هذا الكائن الحي المجهول، وعلى أمل العثور على مزيد من الأدلة التي قد تساعد في فهم طبيعة هذه الحياة.
والآن يتساءل الباحثون في الورقة التي نشروها مؤخراً في مجلة "جيومايكرولوجي": هل هذه الكائنات الغامضة حية حالياً، أم أنها مجرد بقايا أحفورية من حقبة سابقة كانت فيها الظروف المناخية رطبة ومناسبة لوجود الماء السائل؟ هذا سؤال يفتح أبواباً أكثر للمزيد من البحث والتقصي.
في النهاية، يظهر اكتشاف اليوم أننا قد نكون بعيدين عن معرفة كل أشكال الحياة التي تسكن كوكبنا. قد تبدو الصحراء للكثير منا موطناً ميتاً يخلو من الحياة، لكن هذه النتائج تؤكد مرة أخرى أن الأماكن الأكثر قسوة قد تحتوي على أكثر أنواع الحياة غرابةً ودهشة، ويبقى للعلماء الآن مهمة شيقة وضرورية، وهي توسيع البحث بشكل أكبر وأكثر تعمقاً لفهم هذه الظاهرة البيولوجية الغامضة. لعلهم في المستقبل القريب يتمكنون من تقديم تفسير واضح وحاسم لهذا اللغز المبهر.