ذكاء اصطناعي

من كان هنا؟ بصمات غامضة تطيح بتاريخ وجود الإنسان

محمد كمال
محمد كمال

3 د

آثار أقدام بشرية تعود لـ 115 ألف سنة تكتشف في صحراء النفود.

تكشف الآثار عن هجرة الإنسان العاقل المبكرة من إفريقيا عبر الجزيرة العربية.

تشير إلى أن الجزيرة العربية لم تكن مجرد معبر بل محطة رئيسية للهجرة.

اكتشافات بجانب آثار حيوانات تظهر ماضياً محتملاً للمنطقة كبيئة غنية.

الطبيعة حفظت اللحظة عبر عشرات الآلاف من السنين في قلب الرمال.

وسط كثبان الرمال القاحلة في صحراء النفود شمال غرب السعودية، أطلت على الباحثين مفاجأة لم تكن في الحسبان: آثار أقدام بشرية متحجرة تعود إلى ما يقارب 115 ألف سنة. هذا الاكتشاف الذي نشر في مجلة علمية محكّمة، قد يعيد رسم خريطة تحركات الإنسان الأول خارج إفريقيا، ويكشف عن أن الجزيرة العربية لم تكن مجرد منطقة عبور، بل محطة رئيسية على طرق الهجرة القديمة.


بصمة في الطين تحكي قصة مفقودة


في عام 2017، عثر فريق بحثي دولي على موقع سُمّي "الـعَثَر" أي "الأثر"، في قلب صحراء النفود. ورغم أن المنطقة اليوم قاحلة وجافة، فإن الأدلة تشير إلى أنها كانت قبل مئة ألف عام غنية بالبحيرات العذبة والمراعي الخضراء. هناك، حُفظت سبع طبعات أقدام بشرية بجوار آثار حيوانات ضخمة مثل الفيلة المنقرضة، والجِمال، والخيول البرية. وهذا يوضح أن المكان كان نقطة التقاء أجناس مختلفة تبحث جميعها عن الماء.

وهنا تتضح أهمية هذه البصمة البشرية: فهي ليست مجرد أثر عابر، بل وثيقة مكانية تثبت وجود الإنسان العاقل في عمق الجزيرة خلال فترات مناخية رطبة سمحت بالحياة والانتقال.


لقطة زمنية قصيرة العمر


المثير أن هذه الآثار لم تتشكل على مدى سنوات، بل خلال ساعات أو أيام معدودة. عادةً ما يختفي أثر القدم على الطين خلال يومين أو ثلاثة، لكن ظروف طبوغرافية استثنائية أدت إلى تصلب الوحل سريعاً واحتفاظه بهذه العلامات حتى يومنا هذا. وكأن الطبيعة جمدت لحظة عابرة من حياة البشر والحيوانات قبل عشرات آلاف السنين.

وهذا يربط بشكل مباشر بين الديناميكيات المناخية في المنطقة ودور البحيرات الموسمية كمعابر طبيعية سمحت بتحرك الجماعات البشرية.


أقدم دليل على هجرة الإنسان العاقل شرقاً


يرى الباحثون أن هذه الآثار تدعم فرضية الخروج المبكر للإنسان العاقل من إفريقيا، قبل الفترات التي طالما اعتُقد أنها البداية الرسمية للهجرة الكبرى. فعلى الرغم من أن الدراسات الجينية وأدوات العصر الحجري سبق وأشارت إلى وجود البشر في المشرق، إلا أن الدلائل الملموسة داخل الجزيرة العربية كانت نادرة جداً. والآن، يقدم موقع العَثَر دليلاً مادياً على أن الإنسان العاقل مر من هنا واستغل الممرات الخضراء أثناء فترات الرطوبة المناخية.

وبذلك، ترتبط هذه الاكتشافات بتاريخ أوسع لهجرات الإنسان نحو بلاد الشام، ثم إلى آسيا وأوروبا، مرجحةً أن الجزيرة العربية كانت جزءاً أساسياً من هذا الطريق وليست هامشاً جغرافياً.


الطبيعة تجمّع البشر والحيوانات عند الماء


إلى جانب الأثر البشري، ظهرت طبعات لفيلة ضخمة من فصيلة منقرضة تُعرف بـ"بالايو لوكسودون"، إضافة إلى آثار حوافر الظباء، الجمال، والخيول البرية. يجسد المشهد بيئة كاملة حيث التقت كائنات مختلفة حول بحيرة أوشكت على الجفاف. اللافت عدم وجود تداخل بين آثار أقدام البشر، ما يوحي أنهم مرّوا مرة واحدة فقط، ربما ضمن رحلة تنقل أطول في مواجهة تغيّر المناخ.

وهذا يلقي الضوء على طبيعة الحياة في ذلك العصر، حيث كان الإنسان والحيوان يتشاركون خط البقاء ذاته: البحث عن الماء في أراضٍ متقلبة.


الخاتمة


إن آثار الأقدام المكتشفة في صحراء النفود ليست مجرد علامات في الطين، بل سجل مجمد للحظة تاريخية تكشف كيف ساهم المناخ وتغيّر البيئة في صياغة طريق هجرة الإنسان الأول. وبينما كانت البحيرات المؤقتة تتلاشى، ترك الإنسان العاقل بصمته في الرمال لنعثر عليها بعد عشرات الآلاف من السنين، شاهداً صامداً على بدايات رحلته إلى العالم.

ذو صلة

ذو صلة