ذكاء اصطناعي

ناسا تكشف لغز الوميض الغامض قرب القطب الجنوبي بعد سنوات من الحيرة

محمد كمال
محمد كمال

3 د

لاحظ العلماء ومضات مضيئة فوق القطب الجنوبي في صور الأقمار الصناعية.

تم اكتشاف أن العوالق السيليكية والدياتومات تلعب دورًا في هذا الضوء.

الدياتومات تعكس أشعة الشمس مثل المرايا الطافية وتؤثر على الصور الفضائية.

الكائنات الدقيقة تسهم في "مضخة الكربون البيولوجية" وتؤثر على المناخ.

فهم هذه الظاهرة يعزز دقة النماذج المناخية واستشراف التغيرات البيئية.

تخيل أنك تراقب صور الأقمار الصناعية لمنطقة القطب الجنوبي، وفجأة تظهر امامك ومضات ساطعة وبقع مضيئة تلمع وسط مياه المحيط الجنوبي المتجمدة. هذا المشهد المثير حيّر العلماء على مدى أكثر من عشرين عامًا، إلى أن تمكن فريق بحثي أخيرًا من فك شيفرته الغامضة، وكشف الستار عن "الكنز الخفي" داخل تلك البحار البعيدة.

في بداية القرن الحالي، لاحظ العلماء خاصة عالم المحيطات بارني بلتش وزملاؤه، مناطق بحرية حول أنتاركتيكا تضيء بشكل غير اعتيادي في صور الأقمار الصناعية التابعة لوكالة ناسا. حينها أرجعوا بعض هذا الوهج لما يُعرف بـ"حزام الكلسيت العظيم"، وهي منطقة تعج بعوالق بحرية دقيقة تدعى “كوكوليثوفورات” تملك صفائح جيرية عاكسة للضوء. لكن الغرابة بدأت حين رصد العلماء وهجًا قويًا آخر في جنوب هذه المنطقة، حيث من المفترض أن درجة الحرارة منخفضة للغاية ولا تسمح بوجود هذه الكائنات الجيرية.

وهذا الاكتشاف قاد العلماء إلى التساؤل: من أين يأتي كل هذا الضوء الشديد؟ للإجابة عن هذا السؤال، نظم فريق بقيادة بلتش رحلة علمية جريئة على متن سفينة الأبحاث "روجر ريفيل" قطعوا خلالها محيطات صعبة عند خط عرض 60 جنوبًا، مؤمنين بأن العين المجرّدة وحدها لن تكفي وأن التكنولوجيا الحديثة فقط ستقدم الإجابة.


أسرار الكائنات المجهرية في أعماق القطب الجنوبي

في هذه الرحلة العلمية، قام الباحثون بقياس تفاصيل دقيقة لنوعية المياه البحرية، وكشفوا عن تركيبتها المعدنية ونسب تواجد العوالق. التوقعات كانت أن المنطقة تخلو تقريبًا من كائنات تملك أصدافًا جيرية عاكسة كالتي في حزام الكلسيت. ولكن المفاجأة أن الوهج لم ينتج فقط عن "كوكوليثوفورات"، بل لعبت العوالق السيليكية المعروفة باسم "دياتومات" دور البطولة، وهي كائنات دقيقة تبني هياكل زجاجية من السيليكا تدعى "فروستولات".

وهنا يبرز الرابط بين الظاهرة البصرية والتكوين البيولوجي للمحيط؛ إذ وجد العلماء أن التجمعات الهائلة من "دياتومات" تعمل كمرايا طافية تعكس أشعة الشمس وتخدع عدسات الأقمار الصناعية. العجيب أيضًا أن "كوكوليثوفورات" كانت موجودة بأعداد صغيرة في المياه المتجمدة، ما يدل على أن قدرتها على التكيف أكثر مما كنا نظن.

وفي هذا السياق، تتعزز الروابط العلمية بين كيفية تكون "حزام الكلسيت" شمالاً، وتأثير حرَكيات المياه البحرية وتياراتها في توزيع بذور هذه الكائنات الدقيقة جنوبًا، لتعيد رسم خريطة الحياة الميكروسكوبية في أحد أكثر أحواض الكربون أهمية على الأرض.


كيف تؤثر هذه المخلوقات على مناخ الأرض؟

الإجابة العلمية على لغز الوهج كشفت المزيد من الروابط بين الكائنات المجهرية والمناخ العالمي. كل من "كوكوليثوفورات" و"دياتومات" جزء أساسي في "مضخة الكربون البيولوجية"، عملية طبيعية تقوم بنقل ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى قاع المحيط عبر تراكم وتحلل أجسام الكائنات البحرية. وهذا الدور يجعل من المحيط الجنوبي أحد أكبر خزانات الكربون في الكوكب.

وبالعودة إلى التحليلات الكيميائية الدقيقة لعينة المياه، تبين أن تنوع تجمعات العوالق وطرق تخزينها للكربون—إما بالصيغ الجيرية أو الزجاجية—تمنح النظام البيئي البحري مرونة كبيرة في مواجهة التغيرات المناخية، بخلاف ما توقّعه نماذج المناخ التقليدية. هذا الاكتشاف يدفع العلماء إلى تطوير أدوات أكثر دقة لمراقبة أنواع العوالق من الفضاء، لأن انعكاسات السيليكا والكالسيوم تصبح متشابكة بصريًا في الصور الفضائية.

ذو صلة

وبهذا الشكل يصبح فهم أماكن وتغيرات هذه التجمعات الحيوية ليس مجرد اكتشاف بيولوجي، بل أداة حيوية لتحسين النماذج المناخية المتقدمة، وإدارة الموارد البحرية، واستشراف تغيّرات أنتاركتيكا في ظل الاحترار واستمرار ذوبان الجليد.

في الختام، تبيّن أن سر الوهج المدهش فوق القطب الجنوبي ليس إلا نتاج عبقرية كائنات ميكروسكوبية تصنع مراياها الخاصة في قلب البحار. هذه الرواية العلمية الجميلة تذكّرنا بأن أعماق المحيطات تخفي ألغازًا لا تكشف أسرارها إلا بالبحث المتواصل، وأن الجسور بين البيولوجيا والكيمياء وعلوم المناخ تزداد قوة وإلهامًا كلما تقدم البحث العلمي وتعمق في استكشاف المجهول.

ذو صلة