ذكاء اصطناعي

نجاة أوراق نادرة للعالم آلان تورنغ: كنز علمي كاد أن يُفرم يُباع بمئات الآلاف من الدولارات

فريق العمل
فريق العمل

3 د

بيعت أوراق نادرة للعالم آلان تورنغ بمزاد بـ 627 ألف دولار.

كادت الأوراق تُفرم قبل اكتشاف قيمتها التاريخية والعلمية.

ساهمت جهود تورنغ في فك شيفرات "إنيغما" خلال الحرب العالمية الثانية.

واجه تورنغ ظلماً اجتماعياً بسبب ميوله الجنسية رغم إسهاماته العلمية.

الصداقة بين تورنغ ونورمان روتليدج أفرزت هذه الوثائق النادرة.

هل تخيلت يوماً أن قصاصات قديمة من الورق قد تساوي مئات الآلاف من الدولارات؟ هذا هو ما حدث بالفعل في مزاد علني نظمته مؤخراً دار البيع البريطانية الشهيرة "Rare Book Auctions"، عندما بيعت أوراق نادرة تعود لعالم الرياضيات البريطاني آلان تورنغ بمبلغ قياسي قدره 627 ألف دولار. لكن الأمر الأكثر إدهاشاً هو أن هذه الأوراق، التي تعد كنزاً علمياً وتاريخياً، كادت تلقى مصيرها إلى آلة تمزيق الورق.

وتاريخه استثنائي بكل معنى الكلمة، فآلان تورنغ لم يكن مجرد عالم رياضيات ومفكر فريد، بل شخصية مأساوية أيضاً حفر التاريخ اسمه بأحرف من ذهب. عُرف تورنغ على مستوى العالم خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ ساهمت جهوده في فك لغز آلة التشفير النازية الشهيرة "إنيغما"، ليقلب بذلك ميزان القوى لصالح قوات الحلفاء. كما وضع الأسس النظرية لما يسمى اليوم "علوم الحاسوب"، وظل مفهومه عن "الآلة الحاسوبية العالمية"، أو ما بات يُعرف بـ "آلة تورنغ"، مرجعاً أساسياً في المجالات المعلوماتية والبرمجية الحديثة.

لكن حياة تورنغ لم تقتصر فقط على النجاحات العلمية، فقد شهدت أيضاً ظلماً اجتماعياً ضخماً بسبب ميوله الجنسية. فقد أدين تورنغ في بريطانيا بتهمة "المثلية الجنسية" عام 1952، والتي كانت تعد جريمة في حينها؛ ما دفع السلطات إلى فرض عقوبة ضده تتمثل في علاج كيميائي قاسٍ، انتهت فصوله الموجعة بانتحاره بعد عامين فقط من تلك المحاكمة المثيرة للجدل.

على مدى العقود التالية، بذل مؤرخون وناشطو حقوق مجتمع الميم جهوداً حثيثة لتكريم ذكرى تورنغ والتخفيف من هذا الظلم التاريخي الذي لحق به. تعاقبت محطات الاحتفاء والتكريم، بدءاً باعتذار رسمي من الحكومة البريطانية عن الظلم الذي تعرض له، وصولاً إلى إصدار الملكة إليزابيث الثانية عفواً رسمياً بحقه عام 2013، كما خُلدت صورته أخيراً على ورقة نقدية من فئة 50 جنيهاً إسترلينياً.

وهذا يربطنا مباشرة بالصداقة غير الاعتيادية التي جمعت تورنغ بالعالم الرياضي نورمان روتليدج؛ تلك الصداقة التي أفرزت هذه الأوراق النادرة التي بيعت مؤخراً. إذ احتفظ روتليدج، طيلة سنوات طويلة، بمجموعة من أعمال تورنغ الشخصية، منها نسخة موقعة من رسالة الدكتوراه الخاصة بالعالم البريطاني، فضلاً عن جنبات أعمال ومراسلات متبادلة نادرة. والطريف هنا أن هذه الوثائق وصلت إلى أيدي أبناء أخت روتليدج بعد وفاته، وظلت لسنوات طويلة في منزله من دون أن يدرك أحد أهميتها الاستثنائية، قبل أن يعيدوا اكتشاف أهميتها في اللحظة التي كان من الممكن أن تضيع فيها إلى الأبد.

بدوره، علّق جيم سبنسر، المسؤول في دار المزادات والمشرف المباشر على عملية البيع، قائلاً: "لم أكن أتصور أبداً أن هذه الأوراق الباهتة اللون والبسيطة في مظهرها، يمكن أن تكون بمثل هذا الثقل العلمي والتاريخي. كانت المفاجأة كبيرة، والمسؤولية عظيمة تجاه تورنغ وعائلته، وتجاه الأمانة التاريخية التي نحملها بأيدينا".

تجاوزت النتائج كل التوقعات، فقد كانت التقديرات الأولية تشير إلى بيع أوراق تورنغ بحوالي 50 إلى 80 ألف دولار للقطعة الواحدة، لكن إحداها، وتحديداً الورقة التي كتبها عام 1936 بعنوان "عن الأرقام المحسوبة"، بيعت لوحدها بحوالي 280 ألف دولار.

ذو صلة

بهذا المزاد التاريخي، تظهر مجدداً قيمة الحفاظ على التراث العلمي والوثائق التاريخية وحمايتها من التلف والضياع. وتلقي هذه القصة الضوء كذلك على الجوانب الإنسانية والعاطفية خلف الإنجازات العلمية الكبرى، ومنها الصداقة الوطيدة التي جمعت تورنغ وروتليدج، حيث يعكس سجل المراسلات عمق العلاقة الشخصية بين الرجلين، والتي كانت ملاذاً وسط عالم قاس وظروف مجتمعية متشددة لم تقبل بسهولة اختلافهما.

وفي ختام هذا الحدث الاستثنائي، قد يكون من المفيد مستقبلاً تعزيز الوعي لدى العامة بأهمية حفظ الوثائق الخاصة بشخصيات تاريخية، ولفت الانتباه إلى قيمتها الإنسانية والتاريخية العالية. وإذ تسلط هذه الحادثة الضوء على الجانب المظلم في حياة عباقرة التاريخ، فهي في الوقت ذاته تفتح الباب أمام تكريم أكثر عمقاً وإنصافاً لهم في المستقبل.

ذو صلة