هل كذب التاريخ علينا؟ كهف قديم يكشف بداية الزراعة الحقيقية!

4 د
كشفت دراسة جديدة عن جذور الزراعة يمتد لأكثر من 9,000 عام جنوب أوزبكستان.
تم العثور على أدوات حجرية وبقايا نباتات في كهف تودا تُشير لجمع الحبوب البرية.
توضح الأدلة تغير المفاهيم حول نمو الزراعة وتبادلها بين آسيا الوسطى والهلال الخصيب.
الخبراء يشددون على أن التحول للزراعة كان أوسع وأعقد مما كان يُعتقد سابقًا.
هل تخيلت يوماً أن جذور الزراعة قد تمتد أبعد بكثير شرق هلالها الخصيب الشهير؟ دراسة حديثة قلبت الموازين حين كشفت عن أدلة تشير إلى أن المجتمعات البشرية في جنوب أوزبكستان مارست جمع الحبوب البرية واستخدام أدوات من الحجر الحاد منذ ما يزيد على 9,000 عام، ما يدفعنا لإعادة النظر في النظريات التقليدية عن بدايات الزراعة وانتشارها.
لطالما اعتبر ظهور الزراعة خلال العصر الحجري الحديث نقطة تحول في حياة الإنسان، إذ انتقل البشر من الصيد والجمع إلى الاستقرار وزراعة المحاصيل. ولعقود، ظل المؤرخون يعتقدون أن هذه الممارسة انطلقت من منطقة الهلال الخصيب حيث بدأ شعب النطوفيين في حصد الحبوب البرية قبل حوالي عشرة آلاف سنة، محاطين بأراضي العراق وسوريا وتركيا وفلسطين. غير أن الاكتشاف الجديد يوسع خارطة الزراعة القديمة نحو آسيا الوسطى، ليبرهن أن التفكير في أصول الحنطة والشعير والفول كان يحتاج إلى مراجعة أعمق.
أدلة من كهف توْدا: حضارات مبكرة كانت تزرع وتجمع
وفي تفاصيل مثيرة، جاء الكشف من أعمال تنقيب في كهف "تودا" بوادي سوركندريا جنوب أوزبكستان، حيث قاد فريق دولي من الباحثين بقيادة الدكتور شينينغ زهو من معهد علم الحفريات الفقارية في بكين مهمتهم بإشراف الخبير فرهاد مقصودوف مدير معهد الآثار في سمرقند. ومن أعماق طبقات الكهف القديمة أخرجت أدوات حجرية مختلفة اللون والشكل، مع فحم نباتي وبذور متحجرة.
ما يميز هذه المكتشفات هو التحليل البيولوجي لبقايا النباتات، والذي قاده العالم روبرت سبينغلر من معهد بحوث "ماكس بلانك" لعلم الأنثروبولوجيا الجيولوجية. فقد أظهرت الدراسة بوضوح أن سكان الكهف كانوا يجمعون الشعير البري ويجلبونه من الأودية المحيطة، كما عثر الفريق على بقايا فستق حلبي وبذور تفاح، بجانب أدلة مباشرة لاستخدام شفرات من الكلس لجز الحشائش والنباتات على غرار الأدوات التي استُحدثت لأول المزارعين حول العالم.
أما الدليل الأكثر إثارة، فكان وجود علامات بالغة الدقة على شفرات الأدوات الحجرية تشير إلى تكرار استعمالها في قطع النباتات، وهي علامات لا تظهر إلا مع أنشطة متكررة كالتي نعرفها حديثاً في الحصاد الزراعي التقليدي. هذا الربط بين الأدوات والأنشطة الزراعية يدعم بقوة فكرة أن التحول من جمع الغذاء إلى زراعته لم يكن محصوراً بجغرافية الهلال الخصيب وحدها.
وهذا يقودنا للتساؤل: إذا كانت الأنماط الزراعية الانتقالية قد انتشرت بهذه الصورة بين آسيا الوسطى والهلال الخصيب في فترة مبكرة، فما الذي حرك تلك المجتمعات لتبدأ في استئناس المحاصيل؟ وهل كانت هذه التحولات وليدة الحاجة أم كانت مقترنة بتطور ثقافي أعمق؟
دروس جديدة حول أصل الزراعة وانتقالها
وفي تعليقاتهم، شدد الباحثون المشاركون في الدراسة على أن هذا الاكتشاف يغيّر الأفكار السائدة حول تحول الإنسان القديم من الصيد إلى الزراعة. يقول الدكتور زهو: "هذا يوضح أن أنماط الانتقال نحو الزراعة كانت أكثر اتساعاً مما ظن العلماء طويلاً". بينما يشير الدكتور سبينغلر إلى أن النتائج تدعم نظرية ظهور الاستئناس النباتي (دون نية بشرية صريحة في البداية)، فقد تمثل هذا السلوك لدى العديد من الصيادين وجامعي الثمار في أنماط حياتية وتصرفات كانت تمهّد ببطء لظهور الزراعة المنتظمة.
أما الربط بين الواقع الأثري الجديد وسياقه الواسع فيتضح في أن الدراسة فتحت الباب أمام فرضية فريدة: قد يكون تقليد الزراعة المحلية لهذه الشعوب في آسيا الوسطى نتيجة اجتهاد مستقل أو ربما تأثرت بنقل المعرفة الزراعية من الشرق الأدنى إلى تلك المناطق بشكل أسرع وأبكر مما جرى تصوره سابقاً.
وفي ظل هذا الزخم العلمي، يعتزم الفريق البحثي مواصلة التنقيب والتحليل، لمحاولة تعرف مدى شيوع هذه السلوكيات الزراعية في بقية أنحاء آسيا الوسطى، بجانب دراسة إمكانية أن تكون حبوب الشعير المكتشفة نمت بالفعل تحت إدارة بشرية أولية، أي في زراعة بدائية قبل الاستئناس الكامل للحبوب كما نعرفه اليوم.
وهكذا، فإن الصورة الجديدة تؤكد لنا أن تاريخ الزراعة أعمق وأعقد من مجرد قصة أصل واحد أو عملية نقل بطيئة للمعرفة عبر القارات، بل إن المجتمعات الصيادة والجامعة في آسيا الوسطى لعبت دوراً خفياً في مرحلة التحول الزراعي، مضيفة فصلاً جديداً إلى مسيرة الحضارة الإنسانية.
في ضوء كل هذه الوقائع، تتبادر إلى الذهن تساؤلات حول مدى سرعة انتقال الأفكار الزراعية بين الجماعات البشرية القديمة، وكيف ساهمت تلك الشبكات البدائية في رسم معالم الزراعة العالمية التي نعتمد عليها حتى يومنا هذا.
خاتمة: تاريخ الزراعة أكثر عالمية من تصوراتنا
بإزاحة الغبار عن الأدوات الحجرية وبقايا النبات المتحجرة في عمق كهف تودا، ألقت البعثة الأثرية الضوء على بدايات الزراعات الأولى، مؤكدة أن تحول الإنسان من الصيد والجمع إلى الزراعة لم يكن حدثاً محصوراً جغرافياً أو زمنياً، بل نتيجة لسلوك جمعي انتشر وتطور في بقاع شاسعة. ويبدو لنا اليوم أن قصة الحنطة والشعير – وقصة النهوض الحضاري للبشر – فصولها كانت دائماً أكثر تعقيداً واتساعاً مما تخيله الباحثون في الماضي.