هل هذا حجر لعبة… أم وجه ملك فايكنغ مفقود منذ قرون؟

3 د
يعرض المتحف الوطني الدنماركي قطعة نادرة من عاج الفايكنغ عمرها يزيد عن ألف عام.
القطعة اكتشفت قرب أوسلو، تعكس ملامح شخصية فايكنغ بملامح شارب عريض ولحية مضفرة.
تعد جزءًا من لعبة استراتيجية تاريخية تدعى "هنيفاتافل" كانت تجمع الملوك والنبلاء.
تكشف القطعة عن الجوانب الثقافية والاجتماعية لعصر الفايكنغ ويثير اهتمام الباحثين.
تسلط الضوء على الشخصيات البارزة في التاريخ وتأثيرها على الحضارة الإسكندنافية.
تخيل أن تتجول بين أروقة متحف وتلمح فجأة قطعة صغيرة من العاج، عمرها يزيد عن ألف عام، تحدق إليك بملامح دقيقة وتصفيفة شعر عجيبة وكأنها تهمس لك حكايات عن الملوك وجلسات اللعب في عصور الشمال القديم. هذا بالضبط ما حدث للباحثين في المتحف الوطني الدنماركي، عندما أعادوا اكتشاف قطعة غامضة جمّدها النسيان طويلاً، يُعتقد أنها أقرب ما يمكن أن نحصل عليه إلى "بورتريه" حقيقي لشخصية فايكنغ، قد تكون حتى ملكاً شهيراً من زمن هارالد بلوتوث.
بين الواقعية التاريخية وحكايات الملوك
القصة بدأت قبل أكثر من 200 عام، عندما اكتشفت القطعة أثناء حفريات قرب أوسلو في منطقة فيكن جنوب النرويج، وهي بقعة كانت قلب مملكة هارالد بلوتوث في أواخر القرن العاشر. القطعة أشبه بتمثال صغير لا يتجاوز طوله ثلاثة سنتيمترات، صُنعت بدقة من عاج الفظ، وتحمل ملامح رجل يميّزه شارب عريض ولحية مضفرة وشعر مقصوص بعناية مع فرقة في الوسط، ما ترك الأذنين مكشوفتين في أسلوب يبدو أنه كان موضة لدى نخبة الفايكنغ. هذا الطابع الشخصي والجريء في الملامح جعل الباحثين يوصفونها بأنها من أصدق الصور التعبيرية لزمن الفايكنغ.
ننتقل من تفاصيل المظهر إلى مدلولات القطعة على عالم الألعاب في ذلك الزمن. القطعة في الأصل هي جزء من لعبة استراتيجية تدعى "هنيفاتافل" أو ما يطلق عليه أحياناً "شطرنج الفايكنغ"، والتي سادت في دول شمال أوروبا قبل أن تحل محلها لعبة الشطرنج الحديثة في القرون التالية. كانت هذه الألعاب تجمع حولها الملوك والنبلاء، تعكس أشكال السلطة والدهاء في مجتمع يقدّس المهارة والحظ معاً. وجود هذه القطعة مقروناً برفاقها من القطع الأخرى يشير بوضوح إلى الطبقة الاجتماعية الرفيعة لمن امتلكها.
استثنائية القطعة في تصوير عصر الفايكنغ
تتجلى أهمية هذه القطعة فيما توفره للباحثين من نافذة نادرة على ملامح الإنسان — وليس فقط على زخارف الحيوان والتنّين التي اشتهرت بها فنون الفايكنغ الأخرى. يقول عالم الآثار بيتر بنتز من المتحف الوطني الدنماركي: "من الاستثنائي أن نحظى بتجسيد واضح ومعبّر لإنسان من عصر الفايكنغ، هذا تقريباً أقرب ما يكون إلى لوحة شخصية لعظيم من ذلك الزمان." هذا التفصيل يجذب الدارسين اليوم لفهم ثقافة الفايكنغ من منظور جديد، حيث كان الذكاء الاجتماعي والمظهر علامات فارقة في الهوية والحضور.
ولهذه الصورة أثرها العميق في فهم التكوين الاجتماعي في عصور الشمال القديم. فالاسم "فايكنغ" ذاته لم يكن تعبيراً شائعاً بين أهل الشمال بل لفظة أطلقها الإنجليز للدلالة على "القراصنة". وهذا يوضح كيف أن الصورة التقليدية للفايكنغ باعتبارهم محاربين أو قراصنة فقط، تتعارض مع الواقع الأوسع حيث كان المجتمع يضم أيضاً الحرفيين والتجار والمزارعين بعيداً عن السواحل.
من قطعة لعبة بسيطة إلى إرث حضاري خالد
الربط بين هذه القطعة الصغيرة وإرث هارالد بلوتوث يفتح باباً على رمزية التاريخ. الملك هارالد، المعروف كذلك بسبب لقبه الغريب الذي صار لاحقاً رمزاً لمعيار الشبكات "البلوتوث"، وحّد أجزاء من الدنمارك والنرويج، وترك بصمة في البناء الاجتماعي والسياسي لجزر الشمال. إعادة اكتشاف هذه القطعة بعد قرنين من الإهمال، أعاد تسليط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية والنزعة الجمالية التي شكّلت تصوّر الفايكنغ لذاتهم.
هذا كله يجعل من القطعة المُكتشفة ليس مجرد قطعة أثرية أو لعبة ضائعة، بل مرآة تعكس جوانب عميقة من هوية الفايكنغ: ملامح ملك، حرفية استثنائية، شبكة من الرموز والتقاليد، وشخصية تاريخية ما تزال حتى اليوم تثير فضول الباحثين والأجيال.
في نهاية المطاف، تكشف لنا هذه اللعبة الأثرية عن ثراء التفاصيل في ثقافة الفايكنغ، وكيف أن قطعة عاج صغيرة يمكن أن تتحول إلى شاهد على عصر بعيد، ملئ بالطموحات والرموز والدلالات الغامضة. وبينما تواصل الاكتشافات الأثرية إماطة اللثام عن أسرار الممالك القديمة، يظل هذا "الملك" الصغير يحدق فينا من وراء قرون، محافظاً على ابتسامته المشاغبة وقصة عصره المزخرفة بالتحدي والخيال.