وداعًا للنقرات: كيف تُعيد التجارة بدون نقرة “Zero-Click Commerce” صياغة مستقبل التسوق الإلكتروني؟

3 د
التجارة بدون نقرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتسهيل عمليات الشراء تلقائيًا.
لم يعد الانتباه البشري معيارًا مهمًا، بل الدقة والسرعة في توفير المعلومات للذكاء الاصطناعي.
الشركات القادرة على التكامل مع الذكاء الاصطناعي ستسود، بينما قد تواجه الصغيرة صعوبات.
البنية التحتية التقنية والمعلومات الموثوقة هي أساس النجاح في هذا النموذج الجديد.
المرحلة الجديدة تتطلب من الشركات الاستعداد لتكون العلامات بارزة للمساعدات الآلية.
تخيّل معي يومًا قريبًا جدًا، تطلب فيه جارتك الطالبة الجامعية أغراض المنزل وتحجز موعدًا للسباك وتختار سماعات جديدة بدلًا من التي تعطلت، دون أن تفتح تطبيقًا واحدًا أو تتصفح أي موقع ويب. كل ما تفعله هو أن تعطي بعض الأوامر الصوتية البسيطة لجوالها، بعدها تتولى التقنية والعالم الرقمي الترتيب والتسوق نيابة عنها. لا داعي لمقارنة الأسعار، لا نقرات متعددة ولا تعبئة لنماذج تسجيل. فقط نية التعبير تتحول مباشرةً لنية التحقيق والتنفيذ. هذا هو عالم التجارة "بدون نقرة" أو ما بات يعرف عالميًا بمصطلح "Zero-Click Commerce".
لكن، ما هي التجارة بدون نقرة بالتحديد؟ ببساطة، هي كل عملية شراء تتم دون أي تفاعل مباشر بين العميل والقنوات التقليدية التابعة للعلامة التجارية من مواقع أو تطبيقات. منزلك الذي يحتاج إلى مؤن غذائية بشكل أسبوعي، سيتولى الذكاء الاصطناعي فيه مهمة الطلب تلقائيًا من المتاجر التي تفضلها، مع مراعاة ذوقك وميزانية البيت وتاريخ مشترياتك السابقة. هنا تكمن القفزة النوعية الأكبر منذ ظهور إعلانات جوجل وخوارزميات البحث، فما يحدث الآن هو أن الذكاء الاصطناعي لا يقدم فقط اقتراحات، بل يقوم باتخاذ قرارات الشراء بالنيابة عن البشر أنفسهم.
ومن شأن هذه القفزة أن تؤثر بشكل جذري على قطاع الإعلان والتسويق الرقمي الذي يركز على جذب الانتباه البشري. خلال الأعوام الماضية، كانت الإنترنت تعمل وفق أساس بسيط: استقطب اهتمام الناس ومن ثم بع الوصول إليه عبر الإعلان. جوجل، فيس بوك وأمازون بنَوا إمبراطورياتهم وفق هذا النموذج. لكن في عالم التجارة بدون نقرة، صار الانتباه البشري أقل قيمة. الآن، العنصر الأهم هو مدى استعدادك وقدرتك على توفير معلومات دقيقة وسريعة للذكاء الاصطناعي. ستحل تقنية واجهات الربط البرمجي (API)، التي توفر سرعة الوصول إلى المنتجات والحالة والكمية الفورية، محل الإعلانات والمحتوى الاستهلاكي.
وهذا ينقلنا إلى سؤال أساسي سيحدد ديناميكية السوق الجديدة: ما مدى جاهزية الشركات للتحول نحو هذا النموذج التقني؟ العلامات التجارية التي تمتلك قدرة تكامل بياناتها بسلاسة مع منصات الذكاء الاصطناعي الكبرى هي التي ستهيمن على الأسواق في المستقبل. ففي عالم الذكاء الاصطناعي، هناك معايير مختلفة تمامًا عمّا اعتدنا عليه سابقًا. فالمعلومات الصادقة، الجودة الثابتة والتقييمات الحقيقية ستصبح أهم وأقوى من الإعلانات والزخم الإعلامي. باختصار، لا مجال للبهجة العابرة أو الروايات التسويقية المكتوبة شيء هام، لأن الاختيار سيكون مبنيًا على البيانات الموثوقة فقط.
ومن المرجح أن نشهد تغيّرًا انقلابيًا على مستوى التنافس بين الشركات الكبرى والصغيرة. منذ وقت قريب، كان بإمكان العلامات التجارية الناشئة أو المحلّية المنافسة من خلال التسويق الإبداعي وأسلوب سرد الحكايات لتكسب ولاء الناس. الآن، ستتغير شروط المنافسة التي ستركز بشكل كبير على القدرات التشغيلية والفنية؛ مثل التكامل مع الذكاء الاصطناعي وجاهزية نظم المعلومات. لا يملك كل الشركات، وخاصة الصغيرة، الموارد لتوفير واجهات برمجية فعالة والترابط الوثيق مع كبرى الشركات الرقمية مثل أمازون، وجوجل، وآبل.
هذا يعني ببساطة أن التجارة بدون نقرة تستند على ثالوث هام: البنية التحتية التكنولوجية المتينة، المعلومات الدقيقة، والثقة الحقيقية للعملاء. الشركات المُجَهَّزة جيدًا لربط واجهاتها الرقمية بسهولة مع الأنظمة الذكية ستجد نجاحًا كبيرًا، بينما تلك المتخلفة عن الركب ربما تجد نفسها منعزلة في عالم يعتمد فيه العميل على المساعدات الآلية في قراراته.
بالنهاية، نحن أمام حقبة اقتصادية جديدة، أكبر من مجرّد اختفاء النقرات وفتح التطبيقات. إننا أمام مرحلة يصبح فيها الذكاء الاصطناعي وسيطًا رئيسيًا بين المستهلك والبائع، لا مجرد وسيلة مساعدة. ولعل الحكمة هي في أن تبدأ الشركات بالاستعداد من الآن، تفكيرًا وتحضيرًا، ليكون صوت علاماتها مسموعًا بوضوح بين أصوات المساعدين الآليين الذين باتوا يمثلون العميل.
وعلى الرغم من وضوح الرؤية وإلحاح الأمر الاستراتيجي، تبقى هنالك مساحة لتطوير المقاربة والاهتمام أكثر بجانب تهيئة الشركات الصغيرة والمتوسطة لهذه الطريقة الجديدة، وربما تعزيز فهم الجمهور لطبيعة اتخاذ القرارات في عالم يعتمد على التقنية والمعلومات الدقيقة، لأن اكتساب الثقة لا يتحقق إلا بمعرفة واضحة وعميقة. هكذا فقط يمكن للشركات أن تبقى على رفوف "ذاكرة" الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذكية وترسّخ مكانتها في قلوب وعقول الناس في عالم مختلف كل الاختلاف عمّا اختبرناه من قبل.