أقدم مستشفى في التاريخ يُربك العلماء: حضارة سبقت كل التوقعات

3 د
تم اكتشاف أقدم دار رعاية للمسنين على ضفاف بحيرة طبريا بهضبة الجولان.
تم العثور على قطعة فسيفساء مُزينة بعبارة "السلام لكبار السن" في موقع الاكتشاف.
يُظهر الاكتشاف أهمية رعاية المسنين في المجتمعات البيزنطية القديمة.
تسهم الفسيفساء في فهم التحولات الاجتماعية والدينية بمدينة هيبوس.
تخيل أن الآثار التي يمر الزائرون بجانبها يوميًا في هضبة الجولان قد تخفي بين أحجارها قصة إنسانية تعود لأكثر من 1600 عام. المفاجأة هذه المرة تمثلت في اكتشاف قد يكون أول دار لرعاية كبار السن في التاريخ، في قلب مدينة "هيبوس" القديمة المطلة على بحيرة طبريا. الاكتشاف الذي نشر مؤخرًا في إحدى المجلات المتخصصة، قد منحنا نافذة رائعة نطل منها على جذور الرعاية الاجتماعية والتنظيم المجتمعي في العصور البيزنطية.
في البدء، كان الفريق الأثري من جامعة حيفا يتوقع أن يعثر على بقايا عادية، لكن ما كشفته أعينهم تجاوز كافة الافتراضات. فعلى بعدما أقل من 100 متر من ساحة المدينة الرئيسية، وجدوا قطعة فسيفساء رائعة في مدخل مبنى صغير ومتواضع. ليس الجمال البصري وحده هو أبرز ما فيها، بل النص اليوناني المنقوش عليها: "السلام لكبار السن". هذه العبارة المباشرة والودودة غيرت مسار البحث تمامًا، ودعت الخبراء لإعادة التفكير بشأن طبيعة المكان.
وهذا يدفعنا لسبر أغوار معنى الاكتشاف وإعادة تقييم الدراسات السابقة حول رعاية المسنين عبر التاريخ.
بين الأصالة الإنسانية والتخطيط الحضاري: رؤية جديدة لدور هيبوس الاجتماعي
وجود الفسيفساء خارج نطاق الكنائس أو قصور الأثرياء أثار التساؤلات؛ فمبنى كهذا في تلك البقعة المركزية من المدينة، فهو أقرب إلى أن يكون أحد مباني الخدمة العامة المخصصة لفئة معينة. التماثيل المنحوتة والرسومات الملونة على الأرضية كالإوز المصري وأشجار السرو والأواني، أضفت بعدًا روحانيًا وعائليًا على المكان. وباستدعاء خبراء في تاريخ المؤسسات الخدمية القديمة، أصبحت فرضية دار الرعاية أكثر وضوحًا، خاصة مع غياب أي سمات معمارية لكنيسة تقليدية كالمذبح أو المحراب.
وأهمية هذا الربط تظهر في فهم الدور الحيوي الذي لعبته المجتمعات المسيحية الأولى في العناية بكبار السن، خصوصًا من افتقروا لعون عائلي. فقد كانت هذه المسؤولية حتى ذلك الحين ترتكز على الأسرة، لكن هذا النقش الفريد يكشف انتقالها الجزئي إلى النسيج المجتمعي المنظم.
يبدو هذا التحول مرتبطًا بالتغير الاجتماعي في المدينة الواقعة ضمن حلف الديكابوليس – تلك المدن العشر الشهيرة – إذ تحولت هيبوس من مدينة هلنستية كبرى إلى مركز مسيحي مزدهر احتضن عدة كنائس وأسقفًا خاصًا.
وانطلاقًا من هذه المقاربة، نستطيع تتبع ملامح علاقة الفرد بالاجتماع وأثر التحول الديني على أنماط التعاون والتعاضد.

فسيفساء العمران: دلالة المركزية والمكانة في نسيج المدينة القديمة
يقع المبنى المكتشف عند زاوية تقاطع شارعين رئيسيين، ما جعل موقعه ذا وزن كبير في الحياة اليومية للمدينة. وهذه المركزية علامة على تطبيع فكرة رعاية كبار السن وإدماجهم في الدورة المجتمعية وليس تهميشهم أو عزلهم. كان يمكن لكبار السن أن يجدوا هنا مأوى ودفئًا وخدمات صحية واجتماعية وروحية، في جو يبعث الطمأنينة تعبر عنه رمزية الفسيفساء.
ويفسر الخبراء ذلك بأن إدارة الرعاية في هيبوس لم تكن صدفة أو عطفًا لحظيًا، بل مؤشراً على بزوغ مؤسسات اجتماعية أخلاقية، سبقت حتى المصادر المكتوبة في أوروبا وآسيا حول أشكال دور المسنين.
وهذا يكشف بعدًا جديدًا لثقافة المدينة ويوضح كيف غدت الحياة الروحية والاجتماعية متداخلة في صلب المجتمع البيزنطي المحلي.
أما النقلة المفاهيمية فتكمن في أن نقش الفسيفساء، بعكس معظم النقوش الموجهة عادة للنبلاء أو رجال الدين، خاطب "الطاعنين في السن" مباشرة، مما يعكس تغيرًا فلسفيًا في التفكير الجماعي حيال الشيخوخة والدعم المجتمعي.
ومع توالي الكشف، ازدادت قناعة الباحثين بأنهم أمام سابقة عالمية ربما تلهم الحاضر والمستقبل.
في الختام، فإن كشف فسيفساء هيبوس على ضفاف بحيرة طبريا لا يضيء فقط ركنًا منسيًا من التاريخ، بل يقوّي فكرة أن رعاية المسنين وحمايتهم كانا جزءًا أصيلاً من تطور الحضارة وقيم المشاركة الإنسانية، قبل أن تُطرح حتى في المؤتمرات والمنشورات الحديثة. يبقى هذا الاكتشاف مرآةً تعكس صدى الأسئلة الكبرى حول التضامن والرحمة والتكافل عبر آلاف السنين.









