اكتشاف تقنية LoxCode: “الباركود” البيولوجي الذي يعيد بناء خلايا الجسم!

4 د
تقنية "LoxCode" تتيح تتبع الخلايا من بدايتها حتى تكوين الأعضاء.
تكشف التقنية عن قرارات خلايوية مبكرة تحدد وظائفها المستقبلية دون إشارات خارجية.
تحققت اكتشافات بشأن انحياز مصيري وتخصص خلوي سابق لما كان متوقعًا.
توفر "LoxCode" تطبيقات محتملة في علاج الأورام وتجديد الأنسجة بفعالية.
يشير النجاح إلى آفاق جديدة في فهم تطور الأعضاء والاضطرابات الوراثية.
نبدأ جميعًا حياتنا من خلية واحدة صغيرة لا تكاد تُرى، هذه الخلية تنقسم وتتطور في غضون أيام فتصبح تراكيب مختلفة جدًا كالدماغ والقلب والجلد. لكن كيف تفهم كل خلية صغيرة دورها؟ كيف تعرف خلايا معينة أن دورها بناء الكلى في حين تنقطع خلايا أخرى لبناء الجلد أو الخلايا العصبية؟
لطالما كان هذا اللغز الحيوي لغزاً صعباً في علم الأحياء التطوري، إذ ظلّ العلماء يبحثون عن إجابات دقيقة لأكثر من مئة عام. واليوم، يبدو أننا أقرب من أي وقت مضى لحل هذا اللغز بفضل تقنية مبتكرة تم تطويرها حديثاً تحمل اسم "LoxCode"!
"باركود" بيولوجي يتابع رحلة الخلايا من البداية
أعلن مؤخراً فريق بحثي متخصص من معهد والتر وإليزا هول في أستراليا عن تقنية "LoxCode"، والتي تعمل كنوع من "الباركود" البيولوجي، يستطيع متابعة الخلية عبر رحلتها التطورية بدءاً من المراحل المبكرة وحتى تكوين الأعضاء بشكل كامل. هذه التقنية تعمل باستخدام قطع صغيرة جداً من الحمض النووي DNA، تُرتَّب بطرق معينة لإنتاج مليارات التركيبات الممكنة. وحينما تتقارب هذه القطع إلى حد معين، تتوقف عملية إعادة الترتيب وتثبت البصمة الجينية، مما يسمح للباحثين بتتبع كل "عائلة" من الخلايا إلى جذورها الأولى بدقة مذهلة.
وبفضل أن تقنية "LoxCode" تستخدم قطَعَ حمض نووي صغيرة للغاية، أصبح من السهل قراءتها باستخدام أدوات تسلسل جيني بسيطة ومتاحة للعديد من المختبرات، مما يجعل هذه الطريقة اقتصادية وعملية على النطاق البحثي الواسع.
وينتقل هذا الإنجاز من مجرد أداة مخبرية إلى تسهيله تقنيات أخرى تدعم القرارات السريرية؛ فالنتائج يمكن أن تفتح الأبواب نحو تدخلات دوائية وجينية مبكرة وحاسمة.
وبتطبيق التقنية على أجنة الفئران في مرحلة مبكرة جداً (بعد خمسة أيام ونصف فقط من الحمل)، تمكن العلماء من استخراج معلومات قيّمة لم يتوصلوا إليها من قبل؛ فقد وُجد أن التخصص الخلوي مصحوب بانحياز في المصير منذ مرحلة أبكر بكثير مما كان يُعتقد في المناهج الدراسية التقليدية.
اكتشافات غير متوقعة.. والتفسير قد يكمن في مكان الخلايا!
نتائج هذه التجارب تفاجئ الجميع، لأن الفهم التقليدي كان أن الخلايا الجنينية متعددة القدرات تنتظر إشارات خارجية معينة تحدد إلى أين ستذهب. لكن "LoxCode" أظهرت أن خلايا الأجنة الصغيرة للغاية، حين يكون حجمها مثل بذور قليلة من الخشخاش، قادرة على اتخاذ القرارات بشأن وجهة مستقبلها قبل أن تبدأ المراحل الأولى لتكوين الأعضاء بشكل واضح. ومثال على ذلك، الخلايا الجنينية التي تكون قريبة من خطوط تطورية معينة تميل بشكل أكبر لتكوين أنواع محددة من الأنسجة مثل الدم أو الخلايا العصبية.
كذلك كشفت عن عدم تناسق مفاجئ عند تكوين بعض أعضاء الجسم. فمثلاً، وجد أن الخلايا التي تشكل الذراع الأيسر في الجنين أحياناً تنحدر من مجموعات خلايا مختلفة عن تلك المكونة للذراع الأيمن، مما يثير تساؤلات حول حالات طبية ووراثية تؤثر على جانب واحد من الجسم دون الآخر.
وفيما تتصاعد أهمية هذه التقنية وتطبيقاتها الواسعة، شرعت مؤسسات بحثية مختلفة في توظيفها لدراسات السرطان وتجديد الأنسجة، بهدف كشف سبب حدوث انتكاسات الأورام بعد العلاج أو التعافي من الإصابات مثل السكتة الدماغية، في محاولة لرصد جذور الخلايا المقاومة التي تتسبب في عودة المرض من جديد.
مستقبل واعد.. تطبيقات عملية وعلاجية جديدة
هذه التقنية تفتح الباب لعلاجات جينية مبكرة أكثر دقة، عن طريق علاج أصل المشكلة الوراثية في الخلايا المؤسسة، بدلًا من علاج الأعراض النهائية فقط. كما يمكن لتقنية "LoxCode" أن تساعد في تطوير أعضاء بديلة يتم إنماؤها في المختبرات، والتأكد من خلوها من خلايا غير مرغوبة والتأكد من وجود تغطية كاملة لجميع الأنسجة المطلوبة قبل زراعتها في المرضى.
ورغم التفاؤل الكبير حول هذا الاكتشاف، تبقى هناك اعتبارات أخلاقية لابد من مراعاتها، خاصة إذا تم التفكير في تطبيق مماثل على البشر. ورغم ذلك، تبقى التجارب حالياً مقتصرة على الحيوانات، وتحديداً الفئران، لكن نتائجها تشير إلى آفاق كبيرة في فهمنا لطريقة تطور أجساد الكائنات الحية وأصل كثير من الاضطرابات الوراثية ومشاكل النمو التي تظهر قبل الولادة.
هذا الإنجاز العلمي الذي نشر مؤخرًا في مجلة "Cell"، يفتح لنا نافذة جديدة لمعرفة أسرار أجسامنا وخبايا خلايانا، ومن شأنه أن يُحدث تغييرات جذرية في المناهج التعليمية، بل وفي نظرة الأطباء المستقبلية لتداخل العوامل الوراثية والبيئية في تكوين الأنواع المختلفة من خلايا الجسم.
ومع كل هذه الإمكانيات الواعدة، يبقى التحسين المستمر لهذه التقنية ضرورة أساسية لضمان دقة النتائج وزيادة عدد التطبيقات الممكنة فيما يتعلق بمجالات الهندسة الوراثية والعلاجات السرطانية، كما يُستحسن التركيز على تبسيط شرح المصطلحات المستخدمة في التقارير البحثية لتسهيلها على الجمهور العام.
فاليوم مع "LoxCode"، أصبحنا أقرب من أي وقت مضى لفهم خارطة الحياة التي تتركب داخل كل خلية صغيرة في أجسامنا.