الحمض النووي لإنسان البدائي : هل هو مفتاح جديد لفهم التوحد؟

4 د
لا يزال الحمض النووي لإنسان النياندرتال موجودًا في البشر، وقد يؤثر على الإدراك.
تشير دراسة إلى ارتباط جينات النياندرتال بسمات التوحد لدى الإنسان الحديث.
الخصائص الجينية للإدراك البصري والتفاعل الاجتماعي قد تعود لموروث النياندرتال.
سمات الدقة والتركيز قد تكون موروثة وداعمة لبقاء الخصائص الإدراكية.
الدراسة تفتح المجال لفهم أعمق لتنوع الدماغ وأصوله التاريخية.
عندما نتحدث عن إنسان النياندرتال، تخطر ببالنا فورًا صورة لوجه غليظ الملامح ومجموعة من الأدوات الحجرية. لكن هل فكرت يومًا بأن جزءًا من حمضه النووي لا يزال يعيش في أجسادنا حتى الآن، وربما يؤثر على كيفية تفكيرنا أو إدراكنا للعالم؟ تشير دراسة حديثة إلى أن بعض الجينات التي ورثها الإنسان الحديث من النياندرتال قد تكون مرتبطة ببعض سمات التوحد.
قبل حوالي 50 إلى 60 ألف عام، خرجت مجموعات صغيرة من البشر القدماء من إفريقيا باتجاه أوراسيا، والتقت بإنسان النياندرتال هناك، والنتيجة كانت تزاوجًا أدى إلى انتقال قطع من الحمض النووي بين النوعين. واليوم، نحو 2% من الحمض النووي لسكان أوروبا وآسيا يعود مباشرة إلى النياندرتال، مع وجود نسب أقل في مناطق أخرى من العالم.
العديد من هذه الجينات النياندرتالية قد ساعدت الإنسان المعاصر على البقاء على قيد الحياة في ظروف مناخية صعبة، مثل تعزيز المناعة أو القدرة على تحمل المرتفعات العالية. ولكن في المقابل، هناك جينات ارتبطت بشكل وثيق بوظائف الدماغ والإدراك، وهذا النوع من الجينات قد يكون حساسًا جدًا لأي تغير، ما يعني أن أي اختلاف صغير فيها يمكنه أن يؤدي إلى تغيرات إدراكية وسلوكية واضحة.
جينات النياندرتال والتوحد: الرابط غير المتوقع
مؤخرًا، قام باحثون من جامعتي كليمسون الأمريكية ولويولا بدراسة تفصيلية لمجموعة من البيانات الجينية للأشخاص المصابين بالتوحد، وأقربائهم غير المصابين، ومجموعة مقارنة أخرى. كانت النتيجة مثيرة للاهتمام، حيث تبين أن بعض المناطق الجينية الموروثة من النياندرتال توجد بكثرة لدى الأشخاص الذين يعانون من التوحد.
ليس الأمر ببساطة أن لديهم "نسبة" أكثر من الحمض النووي النياندرتالي، بل إن بضع مناطق محددة هي التي ظهرت أكثر تكرارًا. هذه الجينات ترتبط خصوصًا بكيفية تواصل مناطق الدماغ المختلفة مع بعضها، وربما تؤثر على التركيبة العصبية للشخص، إذ يعاني بعض المصابين بالتوحد من "نشاط زائد" في مناطق الدماغ المرتبطة بمعالجة المعلومات البصرية، مقابل نشاط منخفض في المناطق المسؤولة عن التفاعل والتواصل الاجتماعي.
وهذا يقودنا إلى سؤال مهم: ما الذي يجعل هذه الخصائص الجينية المستمدة من النياندرتال تظل موجودة بيننا حتى اليوم؟
التفسير – حسب الباحثين – قد يكمن في طبيعة الحياة التي عاشها النياندرتال أنفسهم: ففي مجتمعاتهم الصغيرة، لعبت القدرات الإدراكية المرتبطة بالمعالجة البصرية والدقة والتركيز دورًا كبيرًا في النجاة. على سبيل المثال، كانت طريقة صنع الأدوات الحجرية الدقيقة والرائعة التي عُرفت بـ"تقنية ليفالوا" تتطلب تركيزًا عاليًا ودقة في التخطيط المكاني، وهي سمات نراها بشكل كبير في تفكير العديد من الأشخاص المصابين بالتوحد اليوم.
قد تكون هذه السمات ذات قيمة كبيرة أيضًا بالنسبة للبشر الذين تفاعلوا مع النياندرتال عبر التزاوج، مما تسبب في بقاء هذه الجينات مفيدة وانتقالها للأجيال اللاحقة.
ويؤكد الباحثون أن الهدف من هذه الدراسة ليس القول بأن النياندرتال "سبب التوحد"، بل هو مجرد إشارة إلى كيفية مساهمة جينات عتيقة في تعزيز احتمالات ظهور خصائص معرفية معينة لدى حامليها، في سياق عصبي أكثر تعقيدًا مما كنا نعتقد.
من الضروري ألا ننسى أن التوحد حالة معقدة، تتأثر بالعديد من العوامل الوراثية والبيئية التي لا تزال قيد الدراسة. ومع ذلك، فإن هذه الاكتشافات الحديثة تفتح الباب واسعًا أمام رؤية مختلفة للتنوع العصبي، الذي لم يعد يُرى كحالة حديثة أو "غير عادية"، بل كموروث عميق الجذور يعود لعلاقاتنا مع إنسان النياندرتال منذ عشرات آلاف السنين.
تضيف هذه النتائج الجديدة أيضًا أفقًا جديدًا للعائلات التي ترى أن لديها "مواهب تحليلية" مثل القدرات على التركيز القوي، الدقة، أو التفكير المنطقي في عدة أفراد من الأسرة، سواء كانوا من ذوي التوحد أو لا. وقد تكون هذه الخصائص بحد ذاتها هدية غير متوقعة من الإرث الوراثي البعيد، الذي جمعنا بإنسان النياندرتال قديمًا.
وفي النهاية، فإن دراسة النياندرتال وحمضه النووي لا تزال مجرد بداية تستحق بحثًا أوسع. ومن المتوقع أن نرى مستقبلًا دراسات استقصائية حول ظروف عصبية مختلفة، وكيف تتفاعل هذه الجينات القديمة مع طرق حياتنا الحديثة، وربما يتحقق المزيد من التفاهم حول طرق تقديم الدعم الخاص وتطوير استراتيجيات تناسب قدرات الجميع على نحو أفضل.
هذه الاكتشافات الجديدة تخبرنا أن قصة تطور البشرية لم تنتهِ بعد، بل هي مستمرة في تكوين أفكارنا وإدراكنا وحتى طرق تفكيرنا اليوم. ويبقى السؤال الأبرز أمامنا: ماذا ستكشف لنا الدراسات المستقبلية من أسرار أخرى عن علاقتنا القديمة مع إنسان النياندرتال؟