الدودة “التي لا تموت” تكشف حدود قدرات الخلايا الجذعية

3 د
كشف فريق علمي أن خلايا البلاناريا لا تعتمد على الحيّز الداعم المعتاد.
تستطيع البلاناريا تجديد أعضاء كاملة وخلق جسد جديد من أجزاء صغيرة.
اكتُشفت خلايا ضخمة تدعى "هيكاتونو بلاست" لا تتحكم بمصير الخلايا الجذعية.
تتلقى خلايا البلاناريا إشارات من خلايا بعيدة، ما يكشف عن شبكة اتصالات حيوية.
هذا البحث يقرب الطب التجديدي من تحقيق حلم ترميم الأعضاء.
في مفاجأة علمية قد تعيد رسم خريطة علم الخلايا الجذعية، كشف فريق من معهد ستاورز للأبحاث الطبية أن خلايا الديدان المسطّحة – أو المعروفة علمياً بالـ“بلاناريا” – لا تتبع القواعد التي عرفناها سابقاً. فبينما تعتمد الخلايا الجذعية في معظم الكائنات على إشارات من خلايا مجاورة لتحديد وظيفتها، يبدو أن خلايا البلاناريا تستمد أوامرها من مناطق بعيدة داخل جسدها، في سلوك يخالف المفهوم الكلاسيكي لفكرة “الحيّز الداعم” أو *niche* الذي طالما ورد في كتب الأحياء.
هذا الاكتشاف اللافت، الصادر في مجلة *Cell Reports* منتصف أكتوبر 2025، يسلّط الضوء على قدرة هذه الدودة العجيبة على تجديد أعضاء كاملة، بل وحتى إعادة تكوين جسدها كلياً من أجزاء صغيرة. وفريق البحث بقيادة الدكتور “بيف مان” من مختبر الرئيس العلمي للمعهد أليخاندرو سانشيز ألفارادو، يرى أن هذا السلوك المستقل ربما يكون المفتاح لفهم كيف يمكن للبشر يوماً ما تجديد أنسجتهم وإصلاح الأعضاء المتضرّرة.
وهنا يبرز تساؤل محوري: هل يمكن نقل هذا المبدأ إلى الإنسان؟
استقلال الخلايا الجذعية... درس من دودة خالدة
تُظهر نتائج البحث أن خلايا البلاناريا تمتلك قدرة مذهلة على العمل دون اعتماد مباشر على بيئتها القريبة. فبينما تسكن الخلايا الجذعية البشرية مثلاً في نخاع العظم وتخضع لتوجيه دقيق من خلايا محيطة، يبدو أن مثيلاتِها في البلاناريا تتصرّف بحرية أكبر، فتُعيد بناء الرأس أو الذيل حسب الحاجة.
هذه المرونة الشديدة لا ترتبط فحسب بقدرة التجدد المعروفة، بل قد تساعد العلماء على تصميم طرق للتحكم في نمو الخلايا دون الوصول إلى الفوضى التي تميّز الأورام السرطانية. فكما يشير ألفارادو، الهدف هو فهم القواعد الأساسية التي تمنع الخلايا من “التمرد” وتحفّزها على السير في مسار نمو منضبط.
انتقالاً من المفهوم النظري إلى التقني، استعان الباحثون بتقنية متقدمة تُعرف بـ“التحليل المكاني للترنسكربتوم”، والتي تسمح بتتبع الجينات النشطة في الخلايا ومحيطها في الوقت نفسه.
مفاجآت تحت المجهر
بفضل هذه التقنية، اكتشف العلماء وجود خلايا ضخمة مجهولة سابقاً بين الخلايا الجذعية، أطلقوا عليها اسم “هيكاتونو بلاست” – تيمناً بالمخلوق الإغريقي الأسطوري ذي الأذرع المتعددة. المدهش أن هذه الخلايا المجاورة لم تكن هي التي تتحكم في مصير الخلايا الجذعية كما كان متوقعاً؛ بل جاءت الإشارات الحقيقية من خلايا معوية بعيدة نسبياً عن موقع التجدد.
هذا الاكتشاف غيّر الفهم التقليدي لكيفية تواصل الخلايا داخل الكائن الحي، مشيراً إلى وجود “شبكة اتصال بعيدة المدى” تنسّق عملية التجديد، أشبه بشبكة الإنترنت الحيوية بين أعضاء الجسم.
وهذا يربط بدوره بين البنية العضوية للبلاناريا وقدرتها الخارقة على جمع إشارات محلية وعالمية في آنٍ واحد، ما يسمح لها بإصلاح ما تلف من جسدها بدقة مدهشة.
إشراقات للمستقبل
يقول الباحثون إن هذا السلوك الديناميكي للخلايا الجذعية في البلاناريا يكشف عن “ذكاء جماعي” داخل الأنسجة، حيث تنشئ الخلايا شبكات مؤقتة من التعاون تسهّل التحول إلى أنسجة جديدة عند الحاجة. هذا المفهوم يمكن أن يُحدث ثورة في الطب التجديدي والعلاج بالخلايا الجذعية لدى البشر. فكلما فهمنا كيف تتفاعل الإشارات البعيدة والقريبة معاً لتنشيط عملية الإصلاح، اقتربنا خطوة من تطوير علاجات تُمكّن الجسم من شفاء نفسه بنفسه.
وهكذا يتبيّن أن دودة صغيرة، لا يتجاوز طولها عدة مليمترات، قد تفتح الباب لأعظم أحلام الطب الحديث: ترميم الأعضاء وإيقاف الشيخوخة الخلوية. فما بين البلاناريا والإنسان خيط علمي رفيع، لكنه قد يكون مفتاح الخلود البيولوجي.









