العين الاصطناعية الأقدم في التاريخ… ابتكار مذهل عمره 4800 عام يكشف عبقرية القدماء

3 د
اكتُشفت العين الصناعية الأقدم في إيران وتعود إلى 4800 عام.
كانت العين داخل جمجمة امرأة في موقع أثري يُعرف بـ "شهد سوخته".
صُنعت العين بعناية من القطران والدهون، مع تفاصيل دقيقة للقزحية.
العين كانت رمزاً للثراء والمكانة الاجتماعية في المجتمع البرونزي.
يُظهر الاكتشاف تقدم الحِرفة والطب في العصور القديمة.
تأخذنا الاكتشافات الأثرية أحياناً في رحلة مذهلة عبر الزمن، فنجد أنفسنا أمام شواهد حية على براعة الإنسان القديم وقدرته على الإبداع والتجريب. أحد أبرز هذه الاكتشافات مؤخراً هو العثور على عين صناعية تعود إلى نحو 4800 عام داخل جمجمة امرأة في إيران، اكتشاف اعتبره العلماء واحداً من أقدم الأطراف التعويضية المعروفة في التاريخ الإنساني. هذه العين لم تكن مجرد قطعة فنية فريدة، بل نافذة إلى عوالم الطب القديم، والرمزية الاجتماعية، ودقة الصناعة في عصور ما قبل التاريخ.
هذا الاكتشاف المثير قادنا إلى موقع أثري استثنائي في جنوب شرقي إيران يُعرف باسم **المدينة المحترقة «شهد سوخته»**، وهي مدينة برونزية مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.
المدينة المحترقة وموقع الاكتشاف
عُثر على الجمجمة داخل مدفن في «شهد سوخته»، التي كانت ذات يوم مركزاً مزدهراً للتجارة والحرف والعلوم في العصور القديمة. وجدت العين الصناعية داخل تجويف العين الأيمن لامرأة توفيت في أواخر العشرينيات من عمرها، وقد أظهرت الفحوص أن عمر بقاياها البشرية يناهز 4800 عام.
اللافت أن العين لم تكن مجرد تجميل بدائي؛ فقد صُنعت بعناية فائقة من **مزيج القطران والدهون الحيوانية**، بقطر يقارب 2.5 سنتيمتر، ونُقشت على سطحها خطوط دقيقة تشبه أنماط القزحية، بينما لا تزال آثار الذهب تلوح عليها بخفوت. ويُعتقد أنها كانت تثبّت بخيوط رقيقة أو مادة لاصقة، لتتيح لحاملتها الحركة والمشاركة في الحياة اليومية دون عناء.
وهذا يقودنا للتساؤل عن الدلالات الاجتماعية وراء هذا العمل المذهل.
رمز للهيبة والمكانة الاجتماعية
يرى علماء الآثار أن هذه العين لم تكن مجرد وسيلة طبية بدائية، بل **رمزاً للثراء والمكانة الاجتماعية**. فدفن المرأة وسط أوانٍ فخارية وتحف نادرة يوحي بأنها كانت تنتمي إلى طبقة مرموقة وربما من النبلاء أو الكهنة.
في ثقافة اعتبرت المظهر الخارجي انعكاساً للقوة والهيبة وربما القداسة، كانت العين الصناعية وسيلة لحفظ الصورة العامة والرمزية الرفيعة لحامليها. وهكذا لم تكن «شهد سوخته» مدينة عادية، بل مجتمعاً عرف الطب والفن والتقنية قبل آلاف السنين.
وانطلاقاً من ذلك يمكننا تفحص ما تكشفه هذه القطعة عن مستوى العلم والحرفة في ذلك العصر.
ابتكار طبي وفني متقدم
العين الصناعية تقدم دليلاً على معرفة عميقة بمواد الطبيعة وخواصها، فالقطران مادة عازلة متينة، واستخدام الدهون الحيوانية منحها مرونة وسهولة في التشكيل. كما أن النقوش والزخارف الدقيقة تؤكد أن الحرفيين كانوا يمتلكون **فنون نقش وتشريح عالية الدقة**. كل هذا يشير إلى أن مفاهيم الطب والعلاج التجميلي كانت أكثر تقدماً مما كنا نتصور في المجتمعات البرونزية.
وما يربط هذا الاكتشاف بمسيرة الإنسان الطويلة هو أن الرغبة في التحسين والتكيف لم تكن حكراً على عصور العلم الحديثة، بل سكنت وجدان البشر منذ القدم.
لمحة عن حياة صاحبة العين
تشير الدراسات إلى أن المرأة عاشت حياة مريحة نسبياً مقارنة بنساء عصرها، وربما فقدت عينها نتيجة مرض أو إصابة، لكن الاهتمام بصنع بديل لها يعني أنها كانت **شخصية ذات تأثير ومكانة**. هذا الاهتمام يدل على تقدير مجتمعها لها، وعلى معرفة مبكرة بمفهوم التأهيل الطبي، ولو بوسائل بدائية.
ويواصل هذا الخيط ربط المدينة المحترقة بإرثها الحضاري العميق.
إرث المدينة ورسالة الاكتشاف
تظل «شهد سوخته» من أغنى المواقع الأثرية بما تحتويه من ألعاب ولوحات ومجوهرات دقيقة الصنع، والآن تُضاف إليها هذه العين الصناعية كعنوان جديد لعبقرية الإنسان القديم. تدفعنا هذه القصة لإدراك عمق الإبداع الإنساني في مواجهة التحديات، وتذكرنا بأن فكرة الأطراف الصناعية الحديثة امتداد لذلك الحس الإبداعي الذي رافق الإنسان منذ آلاف السنين.
في الختام، فإن **العين الصناعية البالغة من العمر 4800 عام** ليست مجرد قطعة أثرية فريدة، بل شهادة على روح التجريب والإصرار التي ميّزت البشرية منذ فجر التاريخ. إنها تذكير بأن الحضارات القديمة لم تكن فقط تبني المعابد والأسوار، بل كانت أيضاً تُبدع حلولاً تمس الكرامة الإنسانية بأدق تفاصيلها.









