ذكاء اصطناعي

القرار ليس قرارك… دماغك يختار عنك أولاً!

محمد كمال
محمد كمال

3 د

كشفت دراسة عن قدرة الدماغ على اتخاذ القرار قبل وعي الشخص بذلك.

تشير النتائج إلى وجود إشارات عصبية تسبق تغيير الآراء بعدة ثوانٍ.

الميزة العصبية المكتشفة يمكن أن تُستغل في تحسين الأداء تحت الضغوط العملية.

يظل العديد من الأشخاص على قراراتهم الأولى رغم الشعور بالشك نظراً للجهد العقلي المطلوب للتغيير.

الأبحاث المستقبلية قد تسهم في تطوير أدوات مساعدة تعتمد على قراءة إشارات الدماغ مبكرًا.

هل تخيلت يومًا أن دماغك قد يتخذ قرارًا نيابة عنك حتى قبل أن تدرك ذلك؟ هذا ما كشفت عنه دراسة رائدة أجراها فريق من علماء الأعصاب بقيادة الدكتور دراغان رانجيلوف من جامعة سوينبرن. وتشير نتائج بحثهم إلى أن أدمغتنا ترسل إشارات داخلية تعبر عن “الشك” أو التردد قبل أن نعي شعورنا بالقلق حيال قراراتنا أو حتى قبل أن نغير آراءنا بالفعل.

في قلب هذه الدراسة المثيرة، خضع المشاركون لاختبارات اتخاذ القرار باستخدام صور متحركة، بينما راقب العلماء نشاط أدمغتهم عبر أجهزة متطورة مسح الموجات الدماغية. وكانت المفاجأة أن نمطًا معينًا من الإشارات العصبية تكرر عند المشاركين الذين همّوا بتغيير آرائهم، وحدث ذلك قبل عدة ثوانٍ من إعلانهم القرار الجديد بشكل صريح. وهذا الاكتشاف يكشف أن مناطق في الدماغ تقيم جودة القرار وتستشعر الشك أو عدم اليقين مبكرًا جدًّا، متجاوزة وعي الشخص الذاتي بلحظات ثمينة. هنا تتقاطع هذه النتائج مع ميادين حساسة مثل الطوارئ الطبية أو صناعة القرار العسكري، حيث يمكن للدقة والتوقيت أن يكونا أمرًا مصيريًا.


دور الإحساس بالثقة وتحسين النتائج تحت الضغط

وانطلاقًا من الفقرة السابقة حول إشارات الشك، يساعد “الحس فوق المعرفي” أو كما يسميه العلماء metacognitive sensitivity في تفسير لماذا يغيّر بعض الأشخاص قراراتهم بينما يتمسك آخرون برأيهم الأولي حتى لو شعروا بعدم الارتياح. فحتى مع وجود شعور داخلي بالتردّد، أظهرت الدراسة أن الكثيرين يفضّلون الثبات على خيارهم الأول وعدم التراجع عنه. ومع ذلك، عندما يُقدِم المشاركون بالفعل على تعديل قرارهم، وجد الباحثون أن قراراتهم الجديدة كانت غالبًا أكثر دقة – بل أحيانًا كانت البيئات الضاغطة عاملاً محفزًا لاتخاذ قرار أفضل عند إعادة التفكير بعقلانية. ويبدو أنّ دماغ الإنسان مجهّز بآلية “تحذير” مبكرة، تتيح له مراجعة نفسه قبل خسارة الفرصة تمامًا.

وهذا يسلط الضوء على إمكانية توظيف هذه المؤشرات الدماغية في التدريب العملي، خصوصًا للعاملين في قطاعات تحتاج سرعة بديهة وحسن تصرف. فإذا أصبح بالإمكان قراءة تلك الإشارات من مسح المخ، فيمكن مستقبلاً تصميم منظومات ذكية تراقب لحظات الشك وتدعو لاتخاذ إجراء وقائي في الوقت المثالي.


هل نغيّر رأينا كثيرًا فعلًا؟

وتبعًا لعلاقة الحس الذاتي بتغيير الرأي، يطرح الباحثون تساؤلاً محورياً: إذا كانت أدمغتنا مستعدة دوماً لإعادة التقييم، فلماذا نظل متمسكين بقراراتنا؟ الجواب يعود، جزئيًا، إلى الجهد الذهني الذي يتطلبه تعديل الاتجاه الأولي؛ أي أن عملية مراجعة القرار تستهلك الطاقة الذهنية وتجعلنا أقل ميلاً للخوض فيها ما لم نشعر بأن النتيجة ستؤثر كثيراً على حياتنا. كما أنّ الجانب الاجتماعي يلعب هنا دورًا مهمًا: يهاب كثير من الناس الظهور بمظهر المتردد أو المتقلب، ويلجأون للثبات حتى لا تهتز صورتهم في علاقاتهم الشخصية أو المهنية.

وتكشف الدراسات الحديثة أن كثرة المراجعة أو تغيير القرار قد يُنظر إليها على أنها ضعف، وفي الثقافات التنظيمية ذات الحزم تعتبر سمة غير مرغوبة. ولهذا السبب يوازن الأفراد دومًا بين المخاطر الشخصية والفوائد الذهنية عند كل لحظة شك.


هل يمكن الاستفادة علميًا وعمليًا من هذا الاكتشاف؟

ذو صلة

بعد أن استعرضنا التفسيرين العصبي والاجتماعي للظاهرة، من الواضح أن هذا البحث يفتح آفاقًا جديدة لفهم كيفية مراجعتنا لقراراتنا، ويقدّم فرصة لتدريب أنفسنا على اتخاذ خيارات أفضل في المستقبل. يأمل الدكتور رانجيلوف وفريقه أن تساهم هذه النتائج في تطوير أدوات مساعدة تعتمد على قراءة إشارات الدماغ مُبكرًا، بحيث يستطيع الإنسان توقُّع التردد وتفادي العواقب السلبية الناتجة عن العناد أو التردد غير المبرر.

في الختام، يبدو أن هناك “عينًا ثالثة” في أدمغتنا ترصد لحظات عدم اليقين ويمكنها تنبيهنا قبل أن يصل الإحساس الواعي، الأمر الذي يعزز من دقة الاختيار ويشجع على إعادة التفكير الإيجابي عند الحاجة. ومع تعمق الأبحاث المستقبلية في هذا المجال، قد نتعلم كيف نستخدم هذه الآلية لصالحنا، فنتخذ قرارات ذكية في اللحظات الحاسمة ونحقق الاستفادة القصوى من قوة عقولنا الفريدة.

ذو صلة