ذكاء اصطناعي

بعد 50 مليون سنة… سلحفاة سورية تقلب تاريخ السلاحف رأساً على عقب!

محمد كمال
محمد كمال

3 د

اكتُشفت سلحفاة بحرية عمرها 50 مليون سنة في شمال سوريا.

تشير الحفرية إلى جنس ونوع جديد للسلاحف باسم Syriemys lelunensis.

يعزز الاكتشاف فهم تطور السلاحف البحرية وأصولها الجغرافية.

ساهمت الباحثة وفاء عادل الحلبي وفريق دولي في توثيق هذه الحفرية.

يعكس المشروع قيمة التعاون العلمي في ظل التحديات الراهنة في سوريا.

هل تخيلت يومًا أن يعيد اكتشاف عظْمة في درجٍ مهمل كتابة تاريخ كائن عظيم عاش قبل عشرات الملايين من السنين؟ هكذا بدأ مشوار سلحفاة بحرية فريدة اكتُشفت في شمال سوريا، لتُلقي بظلالها على فهمنا لتطور السلاحف البحرية عبر العصور.

في عام 2010، وبينما كانت أعمال تفجير في أحد المحاجر بالقرب من بلدة الزُّرفة، طرحت الصخور ما لم يكن بالحسبان: بقايا سلحفاة بحرية مدفونة في عمق الحجر الجيري منذ 50 مليون سنة تقريبًا. هذه الحفرية، التي بقيت مجهولة وسط أدراج مديرية الجيولوجيا في حلب ثلاث عشرة سنة، صارت اليوم أول نوع من الفقاريات يُوثّق علميًا في سوريا رسميًا. رحلة إعادة الاكتشاف بدأت حين نجح فريق دولي من علماء الأحافير في التنقيب عن قيمتها الحقيقية، ليُعلنوا عن جنس ونوع جديدين للسلاحف سمّوهما Syriemys lelunensis، احتفاءً باسم سوريا والتراث اليوناني للكلمة "سلحفاة".


حفرية تخلط أوراق التاريخ

تُسجّل هذه الحفرية منعطفًا كبيرًا في فهم مسار تطور السلاحف البحرية؛ إذ تنتمي Syriemys lelunensis لعائلة قديمة تُدعى "ستيروجيينيني" كانت تتقن الحياة في البحار. على خلاف أنواع السلاحف النهرية أو العذبة المياه المعروفة اليوم، أظهرت بنية الدرع الظهرية والهيكل الحوضي لهذه السلحفاة سمات تكيفية مع بيئة بحرية صرف. المثير أن تأريخ الحفرية بواسطة دراسة بقايا كائنات دقيقة تعرف بـ"الفورامنيفرا" أكد أنها تعود للعصر الإيوسيني (منذ حوالي 50 مليون سنة)، أي أنها أقدم من أقرانها المعروفين لهذا النسل بعشرة ملايين عام على الأقل.

وهنا يظهر الربط بين هذا الكشف الثمين وبين محاولات العلماء طوال عقود لملء الفجوات الزمنية التي لطالما حيرت المهتمين بأصل السلاحف البحرية وتوزعها الجغرافي.


سوريا في قلب المحيطات القديمة

إذا عدنا بالزمن إلى ذلك العصر السحيق، سنجد أن شمال سوريا لم يكن يابسة كما اليوم، بل كان جزءًا من قاع "محيط التيثيس" الشاسع—وهو محيط قديم غمر مناطق واسعة من الشرق الأوسط وحوض المتوسط. في تلك البيئة المغمورة تزدهر الأنواع البحرية، وتتنقل السلاحف بمنتهى الحرية في مدارات جديدة لم تكن معروفة من قبل. إضافة إلى أن هذا الاكتشاف يعزز فرضية نقش منطقتنا المتوسطية كلاعب رئيس في مسيرة تطور وانتشار السلاحف البحرية حول العالم، خاصة وأن آثار هذه المجموعة رُصدت بمناطق من أمريكا الجنوبية والشمالية وأفريقيا وآسيا، وكان الشرق الأوسط حتى وقت قريب حلقة مفقودة في هذه السلسلة الطويلة.

وبالانتقال من البعد الجغرافي إلى الجهد العلمي، يجدر الذكر بأن هذا المشروع تولّته الدكتورة وفاء عادل الحلبي، عالمة أحافير سورية-برازيلية في جامعة ساو باولو، وبمشاركة باحثين من ألمانيا ولبنان وكندا والبرازيل. هذا الزخم العلمي المشترك، في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها سوريا، يبرهن على عمق شغف العلماء وحيوية البحث العلمي حتى في أحلك الظروف.


إرث علمي يواجه النسيان و"زمن ضائع" يُستعاد

ربما الأهم في هذه القصة هو الدرس الذي تعطيه لنا حول قيمة التعاون العالمي ومخزون الإرث الجيولوجي السوري. فعلى الرغم من الصراعات وتعقيدات الواقع السوري الراهن، أصرّت فرق البحث على توثيق وتصوير المواد الأحفورية المتبقية في البلاد، مطلقة مشروعًا طموحًا تحت عنوان "استعادة الزمن الضائع في سوريا". هذا الحراك يمثّل خطوة أولى لفتح نافذة جديدة على تاريخ الأرض من قلب الشام، ويمنح الأمل بأن العلم سيبقى جسرًا للحوار والاكتشاف.

ذو صلة

بهذا تتضح العلاقة بين كل تفصيلة علمية صغيرة وبين السردية الأكبر التي تبحث عن جذور الحياة وتحوّلاتها، مستندة إلى عظام قد تبدو جامدة لكنها تحمل سر الأزمنة وتحولات البحار إلى الصحراء.

في الختام، قصة السلحفاة السورية القديمة ليست فقط إعادة كتابة سطور من تاريخ السلاحف، بل أيضًا نافذة على ما يمكن أن تقدمه أراضينا من مفاجآت للعلم والإنسانية حين تتاح لها الفرصة. فبينما تصارع البلاد تحديات معاصرة، تذكّرنا هذه الحفرية بأن هناك دومًا كنوزًا تنتظر من ينفض عنها الغبار—لتعيد رواية حكاية الحياة من منظور جديد.

ذو صلة