ذكاء اصطناعي

بيانات ثورية من الفضاء تكشف أسرار امتصاص المحيطات للكربون بتفاصيل مذهلة

محمد كمال
محمد كمال

4 د

تكشف الأقمار الصناعية عن تفاصيل امتصاص الكربون من المحيطات بدقة غير مسبوقة.

خرائط OceanSODA-ETHZ تظهر تغيرات الكربون بتفاصيل ثلاثين ضعف السابق.

تساعد البيانات في فهم تأثير العواصف والظواهر البيولوجية على الكربون.

تساهم هذه التقنيات في تحسين نماذج توقعات تغير المناخ.

التغيرات الكيميائية تهدد المحيطات، والتكنولوجيا الجديدة تتابع وتحلل الأمور بسرعة.

هل تخيلت يوماً أن تتابع كيف تتنفس محيطاتنا الحياة في الغلاف الجوي، وهي تمتص وتطلق غاز ثاني أكسيد الكربون، بكل ذلك الوضوح والدقة التي طالما حلم بها العلماء؟ بفضل أحدث تقنيات الأقمار الصناعية، صرنا اليوم نشاهد هذه العملية الحيوية وكأننا نراقبها عبر عدسة مكبرة تتحرك مع حركة الأمواج، مما يفتح أمامنا أبواباً جديدة لفهم العلاقة المعقدة بين المحيطات والاحتباس الحراري.

لطالما كان تتبُّع حركة الكربون بين المحيط والغلاف الجوي بمثابة محاولة قراءة صورة ضبابية تُلتقط مرة أو مرتين في الشهر. خرائط تقليدية تعتمد على بيانات متناثرة من السفن والعوامات ولم تستطع أن تكشف أفكار المحيط في أيام العواصف أو تبدلات التيارات البحرية السريعة. هنا يأتي الدور الرائد لقاعدة بيانات OceanSODA-ETHZ الجديدة، التي تمنحنا كل ثمانية أيام صوراً دقيقة بدقة 15 كيلومتراً، أي أكثر من ثلاثين ضعف التفاصيل السابقة، لتبدو حركة الكربون كفيلم حي نابض بالحياة. وهذا التحول غير المسبوق يسمح للعلماء بفهم أدق لحركة الكربون، عبر تتبع التقلبات اليومية لعوامل مثل درجة حرارة المياه، لون سطح البحر، وسرعة الرياح، بعد معالجة هذه المؤشرات عبر خوارزميات تعلم آلي متطورة.

ترتبط هذه القفزة بتكامل بيانات السفن والعوامات مع الصور الفضائية، وهو ما أشار إليه نيكولا غروبر، أحد قادة المشروع، بقوله إن القياسات المباشرة لثاني أكسيد الكربون على سطح المحيط قليلة ومتفاوتة، لكن مزج هذه المصادر يملأ الفجوات ويرسم صورة بانورامية مستمرة. بهذا يمكننا لأول مرة رصد كيف تؤثر العواصف أو الظواهر البيولوجية المفاجئة على قدرة المحيطات على احتضان الكربون أو إطلاقه، لنكتشف وجهاً جديداً لدور البحار في تنظيم مناخ الأرض.

وتتجلى أهمية هذا الإنجاز خاصة في المواسم الشديدة للعواصف، كالفترة التي شهدت أعاصير هائلة في المحيط الأطلسي سنة 2017، مثل ماريا وإيرما. فقد كشفت الخرائط التفاعلية في مؤتمر وكالة الفضاء الأوروبية كيف سحبت هذه الأعاصير المياه الغنية بالكربون من الأعماق إلى السطح، مما أدى إلى اندفاعات مفاجئة من ثاني أكسيد الكربون ظهرت كبقع حمراء على الرسوم. وبعد نهاية العاصفة، تعود المياه الباردة المثقلة بالأكسجين فتنقلب العملية من إطلاق إلى امتصاص جديد للكربون. وبحسب الباحث جيمي شوتلر، تساعدنا هذه البيانات المتقدمة في التفريق بين امتصاص المحيط الطبيعي للكربون وتلك الذروات الخارجة عن المألوف نتيجة الظواهر الجوية القوية، وهو ما يغير فهمنا لديناميكية الكربون في الطبيعة.

ويتصل هذا الأمر بشكل مباشر بنقاش أوسع حول حلقة التغذية العكسية بين المناخ والمحيطات، إذ يمكن لهذه الظواهر أن تفسر طفرات غير متوقعة في نسب ثاني أكسيد الكربون الجوي، ما قد يدفعنا لإعادة النظر في نماذج توقعات تغير المناخ في المستقبل. فهذا يسلط الضوء ليس فقط على التفاعل اليومي بين الأحوال الجوية والدورة الكربونية، بل أيضاً على هشاشة التوقعات العلمية إذا لم تأخذ بعين الاعتبار تأثير العوامل الطبيعية الاستثنائية.

ومع التقدم في جمع وتحليل البيانات اليوم، أضحى بالإمكان رصد ظاهرة حيوية أخرى تهدد حياة المحيط: تحمض المياه. عندما تمتص المحيطات المزيد من ثاني أكسيد الكربون، يتغير تركيبها الكيميائي ويزداد حموضتها، مما يهدد الشعاب المرجانية والمحار والكائنات الدقيقة التي تعتمد عليها سلاسل الغذاء البحرية. لطالما عانى العلماء من قلة النظرة الشاملة على واقع تحمض المحيطات، لكن مع أدوات OceanSODA-ETHZ المتطورة، صار بإمكانهم تتبع تغير حموضة السطح وتركيز الأيونات الكربونية لحظة بلحظة، بل ومعرفة كيف تؤثر الأمطار أو ذوبان الجليد أو تغيرات تيارات الأعماق في توزيع البؤر الحامضية، الأمر الذي يغني النقاش حول إدارة الموارد البحرية واستدامة المصائد الساحلية.

ما يجعل هذا التطور فريداً أيضاً أنه يشمل الجانب التاريخي لدورة المحيطات، حيث تشير دراسة حديثة إلى أن مناطق تاريخية كمصب السوندا قد تحمل أسراراً لتغير كيمياء البحار عبر العصور، في ربط مثير بين علوم المحيط وتاريخ تطور البشر والمنظومات البيئية.

ذو صلة

ومن هنا، تتضح أمامنا فائدة عظمى لا تقتصر على البحث العلمي الصرف، بل تتسع لتشمل تخطيط المدن الساحلية وسياسات مصايد الأسماك وتقدير قدرة المحيطات على الاستمرار في امتصاص الكربون، مع تتبع مستمر للتغيرات الممتدة منذ عام 1985 حتى اليوم. إن فهمنا الأعمق لدور الكربون في مياه الأرض يحمل تأثيراً مباشرًا على جودة الهواء الذي نتنفسه وكل تفاصيل الحياة من حولنا، ويجعل مسألة حماية المحيط ليست رفاهية بيئية بل مسؤولية جماعية عاجلة.

وفي خاتمة هذا العرض، ربما يكون من المفيد استبدال بعض الجمل الإنشائية بعبارات أكثر مباشرة لتثبيت فكرة أن مراقبة دورة الكربون في المحيطات أصبحت أساساً ضرورياً لعصر التغير المناخي. وإذا أردت عزيزي القارئ تعميق الرابط بين ما تعيشه من أحوال جوية يومية وبين التبدلات الكبرى في نظام مناخ الأرض، فلا تنس أن كل إعصار أو موجة حر قد تترك بصمة خفية في دورة الكربون العالمية، ولعل في هذا دليل جديد على حاجتنا للمزيد من التواصل العلمي الواضح وضبط الكلمات التي تجمع ما بين البساطة وعمق التحليل.

ذو صلة