ذكاء اصطناعي

حمض القرش الأبيض الوراثي يحير العلماء وأسراره تتخطى حدود المنطق

محمد كمال
محمد كمال

4 د

أظهرت دراسة حديثة ثلاث مجموعات وراثية منفصلة لسمك القرش الأبيض.

تم تحديد التوزيع الجغرافي للمجموعات في المحيط الهادئ، الهندي، الأطلسي، والمتوسط.

تباين الحمض النووي الميتوكوندري أربك الفرضيات العلمية السابقة.

لا تزال الآليات التطورية غير المعروفة تلعب دورًا في لغز الشيفرة الوراثية للقرش.

حين يضع العلماء أيديهم على جينوم حيوان مفترس كسمك القرش الأبيض، يصبح من المتوقع أن تلوح إجابات جديدة عن أفق أسرار هذا المخلوق البحري؛ لكنها المفاجأة حين تحول الشيفرة الوراثية لهذا العملاق إلى لغز محير، ينثر المزيد من علامات الاستفهام بدل أن يبدّدها. منذ أوائل الألفية الجديدة بدأ العلماء في تحليل الحمض النووي "DNA" لأسماك القرش الأبيض، معتقدين أن رحلة معرفية شيقة تنتظرهم. إلا أن السنوات مرت، ووجدوا أنفسهم أمام أسرار تزيد تعقيداً، لاسيّما بعد دراسة حديثة عام 2024 قلبت كثيراً من المفاهيم الراسخة عن هذا الكائن.

المفاجأة: ثلاثة أسراب وراثية متباينة
نقطة التحول الكبرى جاءت بعد تحليل ضخم للحمض النووي لعينات متنوعة من القرش الأبيض. فقد اعتقد العلماء طويلاً أن هذه الأسماك - التي تجوب المحيطات وتثير هيبة البحارة - تنتمي إلى نوع عالمي واحد. الدراسة الجديدة نسفت هذا الاعتقاد: فقد تبيّن أن هناك ثلاث مجموعات وراثية منفصلة، ترجع جميعها إلى سلف مشترك عاش قبل حوالي عشرة آلاف عام، أي عند مشارف العصر الجليدي الأخير. التوزيع الجغرافي لتلك الأسراب أظهر وجود مجموعة في شمال المحيط الهادئ، وأخرى في جنوب المحيط الهادئ والمحيط الهندي، والثالثة في شمال الأطلسي والبحر المتوسط. واستنتج الباحثون أن هذا الانقسام يحمل دلالات بيئية وتاريخية كبيرة ويعيد رسم خريطة علم التطور البحري. وهذا الاكتشاف المفاجئ دفع العلماء لمحاولات شتى لفهم مسبباته عبر نماذج ومحاكاة للتطور، ولكن دون طائل.

مصدر الحيرة: تباين الحمض النووي الميتوكوندري
فيما كان العلماء يتوقعون أن تتطابق الأنماط الوراثية (النواة والميتوكوندريا) في هذه المجموعات الثلاث، ظهر العكس. فبينما تتشابه الحمضيات النووية داخل نوى خلايا جميع هذه الأسماك إلى حد بعيد، برز تباين لافت في الحمض النووي الموجود بداخل الميتوكوندريا. وللتوضيح، فالحمض النووي الميتوكوندري ناقل للطاقة في خلايا الكائنات، وغالباً ما ينحدر عبر الأمهات فقط. لذلك ظل لسنوات أداة أساسية لتعقب الهجرات والتسرسبات العائلية للكائنات البحرية. لكن، الغريب في القرش الأبيض أن هذا التباين في حمضه الميتوكوندري لم يفسَّر بأي من الفرضيات الكلاسيكية، كنظرية "عودة الإناث لمسقط رأسهن" للتكاثر، والتي تعرف بحب الموقع الأنثوي أو "philopatry". وحتى عندما جلبت المشاهدات الحديثة مؤشرات إلى صحة هذه الفرضية، فإن بيانات التحاليل الجينية الأوسع بددت الأمل في صحتها، إذ لم توجد إشارات وراثية تدعمها في الحمض النووي للنواة، بما يعكس غموضاً كبيراً في عملية انتقال السلالات.

محاولات التفسير تتبدد أمام الوراثة الغامضة
كلما حاول الباحثون اللجوء لفرضيات أو محاكاة تطورية لتفسير الانقسام الوراثي، اصطدموا بأبواب مغلقة. وقد فكّر العلماء لاحقاً في احتمالية وجود تفاوت كبير في نسب الإناث داخل التجمعات، بحيث تهيمن قلة قليلة من الإناث على الأجيال الجديدة، إلا أن النتائج لم تدعم هذا السيناريو أيضاً. بقيت كذلك فرضية الانجراف الوراثي، أي تغيرات عشوائية في جينات السكان قليلي العدد، لكنها لم تنجح في شرح الفوارق الملاحظة. حتى خيار الانتقاء الطبيعي بدا مستبعدًا - إذ يتوقع أن يكون هناك ضغط تطوري هائل يدفع تلك الطفرات للتفوق، وهو أمر غير مرجح بالنظر إلى العدد القليل للقرش الأبيض عالميًا (نحو عشرين ألف فقط). كل هذا دفع العلماء للاعتراف بأن هناك آلية تطورية غير معروفة، لا بد أنها تلعب دورًا في رسم هذه الشيفرة الوراثية الغامضة.

ذو صلة

ماذا يعني هذا لبقية أسماك القرش؟
هذه الإشكاليات في تفسير شيفرة القرش الأبيض فتحت باباً جديداً للبحث حول أسماك قرش أخرى، كان يُظن أن توزيعها الوراثي واضح بسبب حب الموقع لدى الإناث. الآن، تلوح احتمالات أن تكون أسرار مشابهة مختبئة، ما يستدعي مقاربة بحثية أعمق وأشمل. فلو وُجدت آليات وراثية مستترة بالفعل، فهذا سيغير منظور العلماء لسياسات الحفاظ على الكائنات البحرية والوعي بدقة موازين النظم البيئية في المحيطات.

ولعل هذه الحلقة من البحث تكشف لنا، في النهاية، أن أسرار المحيطات أوسع وأشد دهشة مما قد نتصور، وأن كل محاولة لفك الشيفرة الوراثية لمخلوق مثل القرش الأبيض تحملنا نحو عوالم علمية أعمق وأسئلة أكثر إلحاحًا مما كنا نتوقع. هذه النتيجة تُعيدنا للبداية: إن فهمنا لجينات أبطال المحيطات ما زال في أول الطريق، ولا تزال قطعة هامة مفقودة في لغز الشيفرة الوراثية لهذا المفترس العتيق.

ذو صلة