ذكاء اصطناعي

علماء يحلون لغز “ثقب الجاذبية” الهائل في المحيط الهندي الذي دام 75 عامًا

محمد كمال
محمد كمال

4 د

اكتشف العلماء تفسيراً لحفرة الجاذبية الغامضة في المحيط الهندي.

تؤثر توزيعات الكتل غير المتساوية داخل الأرض على الجاذبية وشكل البحر.

تغيرات في طبقة الوشاح تساهم في انخفاض مستوى البحر في المنطقة.

النماذج الحاسوبية الحديثة تساعد في فهم ديناميات الأرض المعقدة.

النقاشات مستمرة لتحسين دقة النماذج مع البيانات الفعلية.

هل تخيلت يوماً أن قاع البحر قد يهبط عشرات الأمتار عن مستواه بسبب قوى خفية في أعماق الأرض؟ هذا ليس مشهداً من الخيال العلمي، بل حقيقة علمية حيَّرت الباحثين عقوداً طويلة. إنه لغز "حفرة الجاذبية" الهائلة في المحيط الهندي، المنطقة التي ينخفض فيها مستوى سطح البحر بنحو 106 أمتار مقارنة بالمناطق المحيطة، وقد توصل العلماء أخيراً إلى تفسير علمي مقنع لهذا الظاهرة النادرة.

في بداية القصة، لفت انتباه علماء الجيولوجيا في أربعينات القرن الماضي وجود انحراف غريب في مجال الجاذبية، حيث يغطي ما يُعرف باسم "الانخفاض الجيودي للمحيط الهندي" مساحة تفوق 1.2 مليون ميل مربع، وهي منطقة ضخمة لا يبدو سطح البحر فيها مستوياً كما نتخيل. لكن لماذا يحدث هذا الانخفاض الهائل في مستوى الماء؟ لفهم ذلك، لا بد أن نلقي نظرة خاطفة تحت قشرة كوكبنا، ونكشف بعض أسرار قلب الأرض الدفين. إذ تؤثر التوزيعات غير المتساوية للكتل داخل الأرض على قوة الجاذبية، وهذا ينعكس مباشرةً على شكل البحر وارتفاعه في أماكن معينة.

والآن، دعونا نتابع كيف استطاع فريق بحثي مشترك من معهد العلوم الهندي ومركز الأبحاث الجيولوجية الألماني الإحاطة بهذه المعضلة التي دامت أكثر من 75 عاماً.


أبعاد لغز الجاذبية في عمق المحيط

لم تقتصر ظاهرة حفرة الجاذبية على الحسابات النظرية والجداول، بل رصدها العلماء عملياً منذ عقود. في بقعة فسيحة من المحيط الهندي، يمكن لسفن الفضاء وأجهزة الاستشعار المتطورة قياس هذا الانخفاض الكبير، فيما يعرف بالـ "جيود"، أي السطح المثالي للمحيط لو أزيلت منه كل تأثيرات المد والجزر والتيارات. وبمرور الزمن، اشتد الجدل بين الباحثين بشأن أسباب هذه الظاهرة. البعض رجح أن صفيحة تكتونية غارقة منذ ملايين السنين تسببت بهذا الشكل، إلا أن هذه الفرضية لم تصمد أمام فحص التفاصيل، خصوصاً أن عمق واتساع الانخفاض أعقد مما ظنه العلماء.

هكذا انتقل النقاش إلى البحث عما يدور في باطن الأرض، واستخدام تقنيات المحاكاة الرقمية ونماذج الزلازل للتنقيب عن الأسباب الحقيقية. فذلك الانتقال من النظريات القديمة إلى النمذجة ثلاثية الأبعاد والمراقبة الزلزالية يظهر كيف تطور العلم في التعامل مع الظواهر الطبيعية.


ديناميكا باطن الأرض: المفاتيح المفقودة

وعند فتح الباب على مصراعيه نحو أعماق الأرض، برزت أمام الباحثين فرضية الحركات البطيئة في طبقة "الوشاح" تحت القشرة الأرضية، وهو ما يعرف بـ"حمل الوشاح". هذه الحركة تشبه قدراً عملاقاً يغلي ببطء فترتفع المواد الخفيفة الساخنة وتهبط كتل القشرة الثقيلة الباردة. بالفحص الدقيق لبيانات الزلازل واستخدام حواسيب خارقة لمحاكاة الماضي الجيولوجي منذ نحو 140 مليون سنة، استطاع العلماء تحديد أن وجود مادة أقل كثافة وأكثر حرارة في عمق الوشاح أسفل المنطقة – آتية من ما يُسمى "البقعة العملاقة منخفضة سرعة الموجات" الأفريقية – خلقت منطقة جاذبية منخفضة تدفع سطح البحر للهبوط.

وهنا يتضح الرابط الحيوي مع هجرة القارات، إذ كان الهند قبل ملايين السنين في مكان آخر كلياً، تفصله عن آسيا محيطٌ عميق. ومع تحرّك الصفيحة الهندية شمالاً وانغلاق ذلك المحيط، غاصت أجزاؤه داخل الوشاح الأرضي، مسببة اضطرابات ولّدَت أعمدة من الصهارة تواصلت إلى سطح الوشاح وأثرت على توزيع الكثافة هناك، وهو ما يُفسر الانخفاض الحاد في مستوى الجيود.

ومع الأخذ بالحسبان أن حركات الصفائح الأرضية لا تزال تغير شكل القشرة والوشاح، يمكن القول إن هذه الظواهر ليست ثابتة أبداً، ما يجعل متابعة التغيرات المستقبلية موضوعاً مثيراً لعلماء الأرض.


تحديات ونقاشات بحثية مستمرة

من الطبيعي أن تثير مثل هذه النتائج نقاشات بين الخبراء. فالبروفيسور أليساندرو فورتي من جامعة فلوريدا أشار إلى أن النماذج الحاسوبية لم تتمكن من محاكاة بعض أعمدة الصهارة المميزة، التي تسببت بانفجارات بركانية شهيرة مثل تلك المسؤولة عن هضبة الدكن في الهند. كما أبدى تحفظه على دقة التشابه بين النموذج المحوسب وشكل الجيود الفعلي، داعياً لمزيد من الأبحاث لتقليل الفجوات بين النتائج النظرية والواقع.

هذا يعيدنا إلى أهمية التطوير المستمر في تقنيات المحاكاة، ودور الابتكارات الحاسوبية في كشف الغموض الكامن في باطن الأرض. ويؤكد في الوقت ذاته أن تفسير ظواهر بهذا التعقيد يتطلب جمع العديد من الأدلة من تاريخ الأرض القديم والحديث على حد سواء، والتحقق المستمر من صحة النماذج الرقمية ومقارنتها مع القياسات الفعلية.

ذو صلة

في ضوء هذه المناقشات، يصبح من الواضح أن العلم لا يعرف التوقف عند حدود الإجابة الأولى، بل يدفعنا دوماً للبحث عن تفاصيل أدق وتفسيرات أكثر متانة.

ختاماً، نستطيع القول إن دراسة حفرة الجاذبية في المحيط الهندي قد فتحت نافذة جديدة لفهم ديناميكيات باطن كوكبنا وأعطت مثالاً مدهشاً على الترابط بين سطح الأرض وما يجري في أعماقها السحيقة. لا تزال هناك فرص لتعميق البحث بإضافة المزيد من البيانات الزلزالية أو ربما باستخدام مرادفات أكثر دقة عند شرح مفهوم "الجيود" كـ"السيل الجيوديسي"، أو تكثيف الروابط بين حركة المحيطات والتكوينات التكتونية. النقاش لا ينتهي، لكنه يغني المعرفة ويحفز الخطوات التالية نحو فك أسرار الأرض.

ذو صلة