علماء يشمّون مومياوات مصرية قديمة ويكتشفون روائح مبيدات حديثة بدلًا من مواد التحنيط!

4 د
قام العلماء بشم روائح المومياوات المصرية القديمة واكتشفوا أنها ليست كريهة كما كان متوقعًا، بل تحمل روائح زهرية وخشبية وحارة.
تم التعرف على مكونات التحنيط مثل زيت الصنوبر، البخور، المر والقرفة، بالإضافة إلى دهون حيوانية ومركبات صناعية حديثة.
إحدى المفاجآت كانت وجود رائحة تشبه الشاي الأسود، والتي تبين أنها ناتجة عن مركب "كاريوفيلين".
سيتم إعادة إنتاج هذه الروائح بحلول 2026 حتى يتمكن الزوار من اختبارها بأنفسهم في المتحف المصري.
في العادة، عندما نشاهد القطع الأثرية في المتاحف، يكون التفاعل معها بصريًا فقط، لكن هذا لا يكشف القصة الكاملة وراءها. فهناك عنصر أساسي يُفقد أثناء عمليات الحفظ والترميم، وهو الرائحة. تلك الروائح تحمل معلومات قيّمة حول طريقة إنتاج هذه القطع، والمواد المستخدمة فيها، بل وحتى وظيفتها الأصلية.
تراث الحواس: استكشاف البُعد المفقود
يركز مجالي البحثي، المعروف بـ"تراث الحواس"، على كيفية تفاعلنا مع التراث الثقافي من خلال الحواس غير البصرية، وتحديدًا الشم. خلال عملي، طورتُ طرقًا للتعرف على الروائح ذات الأهمية الثقافية والحفاظ عليها.
على سبيل المثال، عملتُ سابقًا مع كاتدرائية سانت بول في لندن لإعادة إنتاج رائحة مكتبتها، حتى تظل متاحة للأجيال القادمة. كما كنت جزءًا من مشروع أوروبي يحمل اسم Odeuropa، حيث تعاون باحثون في علوم الكمبيوتر والتاريخ لإعادة إحياء روائح من تاريخ أوروبا على مدار 300 عام.
بمساعدة خبراء العطور، أعدنا تخليق روائح مثل رائحة مدينة أمستردام في القرن السابع عشر، التي كانت مزيجًا من عبق القنوات المائية وأشجار الزيزفون. وكنتيجة لذلك، أصبح بإمكان زوار متحف أولم في ألمانيا اختبار تفسيراتنا العطرية لعشرة من اللوحات المعروضة.
لكن مشروعي الأحدث عاد بي إلى الماضي السحيق، حين تلقيت دعوة من جامعة ليوبليانا بالتعاون مع جامعة كراكوف والمتحف المصري في القاهرة، للمشاركة في دراسة علمية تتناول أسرار رائحة المومياوات المصرية القديمة.
رحلة عبر الزمن: دراسة المومياوات من منظور حسي
تضمنت الدراسة تسع مومياوات مصرية قديمة محفوظة في المتحف المصري بالقاهرة، منها أربع مومياوات معروضة، وخمس محفوظة في المخازن. تعود أقدمها إلى 3500 عام، مما وفر عينة تمثيلية جيدة لطريقة حفظ المومياوات في العصور المختلفة والممارسات المتبعة في مختلف المتاحف حول العالم.
بسبب القواعد الصارمة التي تمنع استخدام الطرق التحليلية المدمرة عند دراسة المومياوات، قررنا استخدام حاسة الشم كوسيلة غير مباشرة لفهم خصائص التحنيط والمواد المستخدمة فيه.
لذلك، شكّلتُ فريقًا من ثمانية خبراء في التعرف على الروائح، بعضهم عمل معي في مشاريع سابقة، والبعض الآخر كانوا خبراء من المتحف المصري تلقوا تدريبًا خاصًا لاستشعار الروائح وتحليلها.
التحليل العلمي: كيف استخرجنا الروائح القديمة؟
بدأنا بإجراء تحليلات كيميائية للتأكد من سلامة المومياوات، حيث عُولجت العديد منها سابقًا بمبيدات صناعية للحفاظ عليها، بعضها كان يحتوي على مركبات قد تكون مسرطنة، لذا استبعدنا المومياوات التي أظهرت تركيزات عالية من تلك المواد.
بالنسبة للمومياوات المتبقية، فتحنا توابيتها جزئيًا وأدخلنا أنابيب دقيقة لاستخراج عينات من الهواء داخلها. ثم خزّنا كميات محسوبة من هذا الهواء في أكياس خاصة، حيث تم نقلها إلى غرفة بعيدة عن قاعات العرض ليقوم الفريق باستنشاقها مباشرة.

إضافة إلى ذلك، قمنا بجمع عينات هوائية أخرى في أنابيب معدنية تحتوي على بوليمرات تعمل على التقاط المركبات العضوية المتطايرة، ليتم تحليلها لاحقًا في جامعة ليوبليانا. خضع الهواء المأخوذ لتحليل كيميائي دقيق، واستخدمنا تقنية الكروماتوغرافيا الغازية لتفكيك المكونات العطرية وعزل كل رائحة على حدة، ثم قام الخبراء بشمها وتوصيفها.
كانت المهمة مرهقة للغاية، إذ تطلبت الجلوس أمام منفذ الجهاز المخصص لإطلاق الروائح لفترات طويلة، واستنشاق رائحة جديدة كل ثانية تقريبًا، مما كان يُشكل تحديًا حسيًا كبيرًا، لذا كنا نأخذ فترات متناوبة لتجنب الإجهاد الحسي.
المفاجأة: المومياوات تفوح برائحة غير متوقعة!
بخلاف التوقعات الشائعة التي تُصور المومياوات على أنها ذات روائح كريهة، كما رأينا في أفلام مثل The Mummy (1999)، وجدنا أن الروائح كانت في الواقع لطيفة ومفاجئة.
وصف أعضاء الفريق الروائح بأنها خشبية، زهرية، حلوة، حارة، قديمة، وراتنجية، مما أتاح لنا التعرف على مكونات التحنيط القديمة التي استخدمت لحفظ الأجساد، ومن بينها:
- زيوت الصنوبريات
- البخور والمر
- القرفة
كما كشف التحليل عن وجود دهون حيوانية متحللة، والتي كانت جزءًا من عملية التحنيط، إضافة إلى آثار المبيدات الحشرية الصناعية والزيوت النباتية المستخدمة حديثًا في عمليات الحفظ داخل المتحف.
إحدى أغرب الروائح التي اكتشفناها كانت رائحة شبيهة بالشاي الأسود، وهو أمر غير متوقع عند استنشاق رائحة جسد عمره آلاف السنين! بعد البحث، وجدنا أن هذه الرائحة ناتجة عن مركب كيميائي يُسمى "كاريوفيلين"، الموجود أيضًا في بعض التوابل والأعشاب العطرية.
الخطوات التالية: إعادة إحياء روائح الماضي
نعمل حاليًا على إعادة تخليق الروائح المكتشفة، بحيث يتمكن زوار المتحف المصري في المستقبل من تجربة الروائح ذاتها التي اكتشفناها. سيتم ذلك عبر إعادة بناء تركيب كيميائي مطابق للروائح، بالإضافة إلى تطوير إصدار تخيّلي يعكس كيف كانت الرائحة عند إغلاق التابوت لأول مرة في الماضي السحيق.
من المتوقع أن يكون هذا المشروع متاحًا للزوار بحلول عام 2026. وفي الوقت ذاته، تواصل معنا عدد من المتاحف الأخرى التي تمتلك مجموعات من المومياوات المصرية، للاستفادة من منهجنا العلمي في الكشف عن الهوية العطرية للآثار.
بالإضافة إلى ذلك، أعمل مع زملاء آخرين على تطوير كُتيب شامل يوثّق الروائح ذات الأهمية الثقافية في المملكة المتحدة، يشمل السيارات الكلاسيكية، الأطباق التقليدية، ورائحة المكتبات القديمة.
استعادة بعد جديد من التراث
يُعد هذا البحث خطوة جديدة نحو فهم التراث الثقافي من منظور حسي متكامل. فالتجربة الحسية الكاملة لا تقتصر على الرؤية فقط، بل تشمل الصوت، اللمس، وحتى الشم.
المومياوات المصرية طالما أثارت الدهشة والفضول، والآن، أصبح بإمكاننا التعمق أكثر في عالمها عبر استنشاق روائحها كما لو كنا في موقع التنقيب الأثري نفسه لحظة اكتشافها لأول مرة.