ذكاء اصطناعي

في سبق علمي.. علماء ينجحون في “تجميد” الضوء وتحويله إلى مادة “فائقة الصلابة”

محمد كمال
محمد كمال

4 د

نجح علماء في "تجميد" الضوء وتحويله إلى مادة "فائقة الصلابة" تشبه الكريستال.

استخدم الباحثون مفهوم "البولاريتونات"، جزيئات هجينة من الضوء والمادة، لتحقيق النجاح.

تقف المادة "فائقة الصلابة" كاختراق علمي، ويبدو الضوء كالمواد الصلبة بظروف مختبرية محددة.

يمكن أن يفتح هذا الاكتشاف آفاقاً في فيزياء المادة المكثفة وتقنيات الحوسبة المستقبلية.

الاقتصار على الفهم النظري السابق للمادة تحول لواقع ملموس بفضل الأدوات الكمية المتقدمة.

ماذا لو أخبرتك بأن العلماء نجحوا مؤخراً في "تجميد" الضوء وتحويله إلى مادة فائقة الصلابة تشبه الكريستال وفي نفس الوقت تتصرف كسائل دون لزوجة؟ نعم، قد يبدو هذا غريباً، لكنه حدث بالفعل! في إنجاز أعلنت عنه مجلة "نيتشر"، استطاع فريق من الباحثين في جامعة بافيا الإيطالية والمعهد الوطني للتكنولوجيا النانوية (CNR Nanotec) تحقيق هذا الاختراق الذي ظل العلماء يحلمون به لعقود.

لطالما عُرف عن الضوء سرعته الثابتة الهائلة، إذ ينتشر بسرعة تصل إلى 300 ألف كيلومتر في الثانية في الفراغ؛ فهو مكوّن من جسيمات تُعرف بالفوتونات التي ليس لها كتلة ساكنة ولا تتفاعل مع بعضها بقوة. ولطالما اعتُقد أنه يستحيل حبس هذه الجسيمات في مكان معين أو تجميدها. ولكن في هذا البحث الجديد، تغيرت الصورة تماماً.


طريق الوصول إلى الحالة "الفائقة الصلابة"

بدأ العلماء رحلتهم باستخدام مفهوم يدعى "البولاريتونات" أو الجسيمات الهجينة التي تحتوي على خصائص من الضوء والمادة بنفس الوقت. البولاريتونات تظهر عندما ترتبط الفوتونات (جسيمات الضوء) مع جسيمات من الطاقة داخل المادة، مثل الفونون (الطاقة الاهتزازية) أو الإكسيتون (أزواج الإلكترون-فجوة). لإحداث هذه الظاهرة النادرة، استخدم الباحثون موجّهاً موجياً (Waveguide) مصنوعاً من مادة شبه موصلة (ألومنيوم غاليوم أرسنايد)، مع مصدر للإكسيتونات وليزر.

داخل هذه البنية الدقيقة، قام الباحثون بخفض درجة الحرارة إلى قرابة 269 درجة مئوية تحت الصفر (قريباً جداً من الصفر المطلق)، وهي ظروف مواتية لظهور حالات المادة الكمومية الغريبة. بفعل أشعة الليزر داخل موجّه الموجات، تشكّلت البولاريتونات وتجمّعت في نمط بلوري منتظم، لتظهر مادة تمتلك خصائص مزدوجة: فهي تمتلك ترتيباً منتظماً كبلورات الجليد، لكن يمكنها أن تتدفق بسلاسة وبدون احتكاك تماماً مثل السوائل فائقة الميوعة.

وهنا يبدأ الجزء الممتع حقاً؛ فهذه المادة التي أطلقوا عليها "سوبر سوليد" أو "فائقة الصلابة"، توقع العلماء وجودها بشكل نظري منذ الستينيات، وأثبتوها في المختبرات لأوّل مرة عام 2017، لكنها المرة الأولى التي يتم فيها صنعها من الضوء.

وهذا يربط بين الإنجازات السابقة ومحاولات عديدة لترويض الضوء وتوظيفه بشكل مختلف.

من الضوء المتباطئ إلى البلورات الضوئية

هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها العلماء إبطاء الضوء أو تقييده داخل مادة ما بشكل ما، فالباحثة الدنماركية ليني هاو تمكنت وفريقها في عام 2001 من إيقاف الضوء تماماً داخل مادة تُعرف بـ "تكثيف بوز-آينشتاين" مؤقتاً، عبر تحويل معلومات الضوء إلى ذرات المادة لإعادة إطلاقه لاحقاً، لكن لم تتحول الفوتونات ذاتها إلى مادة صلبة.

ولاحقاً، في 2010، نجح فريق ألماني في إنتاج "سائل ضوئي" أو "تكاثف بوز-آينشتاين فوتوني". لكنها احتفظت بحالة شبه سائلة ولم تحصل على الترتيب الصلب المنتظم. هذه المحاولات كانت مقدمة ضرورية للوصول إلى هذا الإنجاز الأخير.


"المسرح الكمي".. طريقة إبداعية لشرح تجربة معقّدة

ولتقريب الصورة والمفهوم للقارئ العادي، شبّه الباحثون هذه الحالة غير المألوفة للضوء بالمسرح المزدحم؛ تخيل أنك في مسرح ممتلئ تماماً بالمشاهدين ولم يبق إلا ثلاثة مقاعد في المنتصف، الجميع يريد المركز لكنه مقعد يتسع لشخص واحد فقط عادة، لكن في العالم الكمي الغريب، يمكن لأكثر من جسيم بوزوني (مثل البولاريتونات أو الفوتونات) المشاركة في ذات المقعد المركزي، فيحدث ما يسمى "التكاثف". وعند زيادة الضغط أكثر، يبدأ جسيمان أو أكثر بالتحرك نحو مقاعد جانبية، ما يخلق ترتيبات متكررة ومنظمة على الجانبين، وبهذه الطريقة تظهر خصائص المادة "فائقة الصلابة".

وهنا تأتي أهمية ما حدث، إذ إن الضوء يُظهر، في ظل ظروف المختبر المدروسة، خصائص أشبه بخصائص المادة الصلبة بمنطق كمي فريد. قد يبدو الأمر خيالياً بعض الشيء، لكنه حسابات علمية دقيقة أكدت هذه النتيجة الرائدة.

وفي ظل هذه النتيجة، ما الذي يعنيه ذلك لتقنياتنا المستقبلية؟

قد يساعد هذا الاكتشاف في فتح آفاق هائلة في فيزياء المادة المكثفة، وهي نفس المجال البحثي الذي أدى لظهور تقنيات نستخدمها بشكل يومي مثل أشباه الموصلات، والليزر، وشبكات الألياف الضوئية، وصولاً إلى الحوسبة الكمومية وتقنيات الاتصالات المتقدمة.

وعلى الرغم من كون هذا الإنجاز لا يزال في مرحلة مخبرية أولية، فقد يساهم في تطبيقات مستقبلية مذهلة مثل نقل الطاقة الضوئية بلا خسائر عبر مسافات طويلة أو تطوير عناصر البنية الأساسية في أجهزة الحواسيب الضوئية المستقبلية.

ذو صلة

وعلى الرغم من تعقيد الموضوع، تمكن الباحثون من تقريب الفكرة لكل قارئ عبر مجموعة من الأمثلة المبسطة والعملية بأسلوب شيّق ومبتكر يربط بين النظرية والتطبيق.

الوصول لمادة ضوئية فائقة الصلابة هو انعكاس إبداعي لقدرتنا في القرن الواحد والعشرين على استخدام الأدوات الكمية لتحدي حدود المفاهيم التقليدية حول المادة والضوء، ويبقى علينا الآن ترقب ما ستجلبه السنوات القادمة من تطبيقات مدهشة لهذا الاكتشاف العلمي الباهر. ولعل إضافة بعض الأمثلة اليومية في المقال قد يقرب الفكرة أكثر للقارئ، مثل ربط مادة المقال بمفهوم الألياف الضوئية التي نستخدمها اليوم في تسريع اتصال الإنترنت، لجعله أكثر قربًا ويحث على متابعة تطورات هذا الحدث العلمي البارز.

ذو صلة