النيازك ليست للآلهة فقط: حلي كونية اكتشفت في قبور البشر العاديين في بولندا

3 د
تم اكتشاف مجوهرات قديمة في بولندا صنعت من الحديد القادم مع النيازك.
تعود الحُلي إلى ثقافة لوساتيان بين 750 و600 قبل الميلاد.
استخدم الباحثون تقنيات مثل التحليل بالأشعة السينية لتحديد أصل الحديد النيزكي.
يشكل الاكتشاف أكبر مجموعة حُلي من الحديد النيزكي في أوروبا الوسطى حتى الآن.
يمثل الاكتشاف تحولًا في السوق القديمة ونظرة المجتمع للمواد الفريدة.
هل تخيلت يومًا أن يرتدي إنسان قبل آلاف السنين سوارًا أو خاتمًا مصدره الفضاء الخارجي؟ في اكتشاف مثير يضيف بعدًا جديدًا لفهمنا لتاريخ صناعة المعادن، أعلن فريق من العلماء البولنديين والفرنسيين عن تعرّفهم على مجوهرات قديمة صُنعت من الحديد القادم مع النيازك، وذلك ضمن مجموعة متحف تشيستوخوفا في بولندا.
تشير الدراسات الأثرية الحديثة إلى أن هذه الحُليّ، التي تشمل أساور، حلقة للكاحل، ودبوس، تعود إلى سكان المنطقة فيما بين 750 إلى 600 قبل الميلاد في عصر الحديد، وتحديدًا ضمن ثقافة لوساتيان المنتشرة في أجزاء من بولندا، التشيك، سلوفاكيا، ألمانيا الشرقية، وأوكرانيا الغربية. يربط هذا الاكتشاف ما بين أحداث تعود لأزمنة غابرة ورحلة الإنسان الطويلة في ابتكار أدواته وحُليّه وتعامله مع المعادن النادرة.
أسرار المعدن السماوي: كيف تميّز العلماء الحديد النيزكي؟
لتحديد أصل هذه الحليّ، استخدم الباحثون تقنيات متطورة مثل التحليل بالأشعة السينية المحمولة (p-XRF) والمجهر الإلكتروني المزود بتحليل العناصر (SEM/EDS). هذه الأجهزة دقيقة للغاية وتكشف نسب العناصر الكيميائية، فمثلاً وجود نسبة مرتفعة من النيكل هو العلامة الفارقة للحديد الذي يأتي مع النيازك، وليس الحديد الأرضي التقليدي. تكشف النتائج أن الحُلي المستخرجة ليست فقط من أصل نيزكي، بل جميعها يُحتمل أن تكون قد صنعت من نيزك واحد سقط في المنطقة، وهذه نقطة محورية تربط بين الاكتشاف والدلالات الجيولوجية للمنطقة في تلك الحقبة.
ومن هنا ننتقل إلى منظور المجتمعات البشرية القديمة في تعاملها مع هذا "المعدن السماوي"، فالحديد النيزكي كان أغلى من الذهب في فترات طويلة من عصور ما قبل التاريخ بسبب ندرته وغرابته.
وأهمية الاكتشاف تكمن أيضًا في كونه يشكل أكبر مجموعة معروفة من الحُلي المؤكدة الصنع من الحديد النيزكي في أوروبا الوسطى حتى الآن.
مكانة الحديد النيزكي: من الرمزية إلى الاستعمال اليومي
لطالما اعتبر قدماء البشر الحديد النيزكي مادة ذات رمزية روحانية عظيمة، إذ لم يكن متوفرًا بكثرة وكان يُعتقد أنه هدية من السماء أو يحمل قوى خاصة. لكن تحليل الحُلي المدفونة في المقابر المكتشفة ببولندا يُظهر أن شعب لوساتيان بدأوا ينظرون إلى الحديد النيزكي كخام يمكن استخدامه بسهولة لصنع قطع الزينة بجوار الحلي المصنوعة من الحديد المستخلص عبر الصهر، بل وفي أنواع الدفن المختلفة سواء بالحرق أو الدفن التقليدي. هذا التحول في النظرة وعنصر "الديمقراطية" في الاستعمال يروي لنا الكثير عن التطور القيمي والثقافي في تلك الفترة؛ إذ لم يُقصر استخدامه على النخبة أو لأغراض شعائرية فقط، بل امتد ليشمل فئات أوسع في المجتمع.
وذلك يدفعنا للتساؤل عن الأسواق القديمة وجدليات التجارة وانتقال المواد الخام، خاصة أن الحديد العادي في تلك المنطقة كان على الأغلب مستوردًا، بينما الحديد النيزكي محلي بحت.
إبداع الحِرفيين: تقنيات مزج الحديد النيزكي
واحدة من الجوانب اللافتة في هذه الدراسة، أن تركيزات المعادن داخل بعض القطع تشير إلى أن الحرفيين قد خلطوا بين الحديد النيزكي وبين الحديد المُستخلص من الأرض، ربما لتحقيق متانة أو لمعان معين، أو لإبراز مهارة فنية خاصة. هذا المزج حدث قبل قرون طويلة من ظهور تقنيات صناعة الصلب الدمشقي الشهير و"ووتز" الهندي، ما يضيء جانبًا غير متوقع عن براعة الإنسان القديم وحسه بالتجريب والابتكار في المعادن.
وهذا يسلط الضوء على مدى تعقيد الصناعات القديمة، ويفتح أبواب البحث أمام اكتشافات مستقبلية قد تدفعنا لإعادة التفكير في التاريخ التكنولوجي لسكان وسط أوروبا.
في الختام، يُعدّ هذا الإنجاز الأثري علامة جديدة على ارتباط الإنسان القديم بالسماء بحثًا عن المواد الفريدة واستثمارها في الحياة اليومية، وليس فقط في طقوس أو أساطير. اكتشاف حُلي الحديد النيزكي يشجع العلماء على التنقيب في مواقع أثرية أخرى، سعيًا للعثور على مزيد من الأدلة التي توضح كيف استفاد أجدادنا من هدايا الفضاء على الأرض. وبينما يستمر البحث، يبقى السؤال مفتوحًا: ما الأسرار الأخرى التي ما زالت مدفونة بانتظار أن تكشف لنا كيف تداخلت الحضارة مع الكون منذ آلاف السنين؟









