كهنة باوني لم يرسموا مجرد نجوم… بل شفرة سماوية تهزّ تاريخ البشرية!

3 د
الخريطة النجمية للباوني، قطعة جلد أيل قديمة، تثير جدلًا بين العلماء.
يُعتقد أنها تعود للقرن السابع عشر وتمثل تفسيرًا شعبيًا فلكيًا.
الباحثون يختلفون حول دورها كخريطة سماوية أو رمز ديني.
تشترك في تمثيل علاقة ثقافة السكيري بالكون عبر رسم النجوم على الجلد.
تظل الخريطة جسراً بين الفلك والأساطير والهوية الروحية للشعب.
وسط سهول أمريكا الشمالية، احتفظ شعب الباوني بقطعة فريدة من جلد الأيل مرسوم عليها أنماط نجوم، عُرفت اليوم باسم “الخريطة النجمية للباوني”. ورغم مرور نحو أربعة قرون على صناعتها، ما زال العلماء والأنثروبولوجيون يختلفون حول وظيفتها الحقيقية: هل كانت خريطة فلكية دقيقة أم رمزاً دينياً يحمل أبعاداً روحية؟
المثير أن هذه القطعة الصغيرة، التي لا تتجاوز 38 في 56 سنتيمتراً، تعود إلى أوائل القرن السابع عشر تقريباً، وصُنعت على الأرجح بواسطة فرع *السكري* (أو السكيدي) من أمة باوني. وهنا يظهر سؤال جوهري: كيف استطاع شعب ما قبل الاتصال الأوروبي تحويل السماء إلى صور تُروى عبر جلد حيوان؟ هذا ما جعل القطعة محط انبهار لعلم الفلك والأنثروبولوجيا على حد سواء.
وهذا يربط بين الاكتشاف الأول للقطعة في مطلع القرن العشرين وبين النقاشات الأكاديمية التي استمرت حول معناها حتى اليوم.
اكتشاف يثير الجدل بين العلماء
تم العثور على الخريطة عام 1902 داخل حزمة طقسية مقدسة من مقتنيات شعب السكيري، على يد عالم الأنثروبولوجيا جيمس موري، الذي سلّمها لاحقاً إلى متحف «فيلد» في شيكاغو. منذ ذلك الحين، تحولت إلى مادة ثرية للبحث العلمي. الفلكي رالف بَكستاف رأى فيها تمثيلاً دقيقاً للسماء، حيث اعتبر أن خط النجوم الصغيرة في الوسط يمثل درب التبانة، مقسِّماً الصورة بين كوكبات الشتاء في نصف الكرة الشمالي على يسار الخريطة وكوكبات الصيف على يمينها.
لكن هذا التفسير لم يسر طويلاً، إذ جاء الفلكي فون دِل شامبرلين في ثمانينيات القرن العشرين ليشكك في هذه الرؤية، مقترحاً أن الخريطة لم تكن “خريطة سماوية” بالمعنى الغربي، بل أقرب إلى تصوير رمزي استخدمه كهنة الباوني في طقوسهم.
وهذا يفتح الباب أمام طرح فكرة أعمق: أن القطعة ليست مجرد أداة للرصد الفلكي، بل وسيلة لحفظ أساطير النشأة وتذكير الأجيال بسرديات الخلق.
أسطورة أم علم؟
الباحث الأنثروبولوجي دوغلاس باركس أيد لاحقاً رأي شامبرلين، مؤكداً أن الخريطة ليست أداة ملاحة بين النجوم، بل أشبه بـ “جهاز للذاكرة”، يساعد الكهنة على رواية قصة أصل العالم كما يراها السكيري. وهكذا تتحول الخريطة إلى وسيط بين السماء والأرض، لا يقتصر دورها على حساب المواسم بل يتخطاه إلى بناء الهوية الروحية للشعب.
وهذا يربط بين وظيفة الخريطة كأداة دينية وبين التصورات الكونية التي سادت لدى شعوب أمريكا الأصلية قبل الاستعمار الأوروبي.
رمز فريد في تاريخ أمريكا الأصلية
حتى اليوم، لم يتفق المتخصصون على تاريخ دقيق لصناعة القطعة أو على معناها النهائي، لكنها تبقى وثيقة نادرة تُظهر كيف فسّر شعب الباوني السماء بطريقتهم الخاصة. إن وجود تمثيل رسومي للنجوم على جلد أيل، قبل الاتصال الأوروبي، يجعلها فريدة في التراث الأصلي لشمال أمريكا. وهنا تكمن قيمتها الاستثنائية: فهي ليست مجرد أثر مادي، بل جسر يربط بين علم الفلك والأساطير والدين والهوية.
وفي النهاية، تعكس “الخريطة النجمية للباوني” كيف استطاعت ثقافة قديمة أن تحوّل السماء إلى قصة، وأن ترسم على جلد حيوان ما يلخّص رؤية شعب بأكمله للعالم والكون. ومع استمرار النقاشات بين المؤرخين والفلكيين، تبقى هذه القطعة نافذة استثنائية على علاقة الإنسان بالسماء منذ قرون طويلة.









