ليس جليدًا فقط…أدلة جديدة تكشف عن غابة مزدهرة داخل قلب أنتاركتيكا المتجمدة!

3 د
اكتشف فريق بحثي كهرماناً في قاع خليج جزيرة باين – القارة القطبية الجنوبية.
الكهرمان يشير إلى أن القارة كانت غابة معتدلة المناخ تعجّ بالنباتات قبل 90 مليون سنة.
يظهر الكهرمان آثار لحاء أشجار وبذور دقيقة، مما يعيد رسم ملامح بيئية دافئة.
يساعد الاكتشاف في فهم التغيرات المناخية وتاريخ الأرض وتوقع مستقبل المناخ.
في اكتشافٍ مدهش هزّ الأوساط العلمية، أعلن فريق بحثي عن العثور على قطعٍ صغيرة من الكهرمان في قاع خليج جزيرة باين بغرب القارة القطبية الجنوبية، ما أزاح الستار عن سرٍ طبيعي يعود إلى نحو تسعين مليون عام — حقبةٍ كانت فيها القارة البيضاء غنّاءً دافئة تعجّ بالحياة والنباتات.
تشير الدراسة التي نُشرت بعنوان «أول اكتشاف للكهرمان في القارة القطبية الجنوبية» في مجلة *Antarctic Science* إلى أن المناخ خلال العصر الطباشيري الأوسط كان مختلفاً تماماً عمّا نعرفه اليوم. فقد تمتعت المنطقة حينها بشتاءٍ معتدل وصيفٍ طويل أشبه بمناخ الغابات المعتدلة، وهو ما يغير نظرتنا السائدة تجاه تاريخ المناخ على كوكب الأرض.
وهذا الاكتشاف يسلّط الضوء على ثراء الأدلة العلمية التي يمكن أن يقدمها الكهرمان، إذ يُعدّ هذا الراتنج المتحجر بمثابة كبسولة زمنٍ تسجّل تفاصيل دقيقة عن الماضي.
الكهرمان... حافظ الذاكرة الطبيعية
لعل ما يجعل الكهرمان مادّة فريدة هو قدرته على حفظ بقايا النباتات والحشرات وحبوب اللقاح بمستوى لا يمكن أن يقدّمه أي نوع آخر من الحفريات. وفي هذه الحالة، فإن أجزاء الكهرمان المكتشفة في القارة الجنوبية تمثل الدليل المباشر الأول على أن أرض الجليد كانت يوماً مكسوّة بغابات كثيفة وصنوبرٍ شاهق. يقول يوهان كلاجِس، من معهد ألفريد فيغنر الألماني للأبحاث القطبية، إن تحليل هذه الشظايا الصغيرة مكّن العلماء من إعادة رسم ملامح بيئية لحقبةٍ دافئة كانت فيها القارة مفعمة بالحياة.
ومن المثير أن حبات الكهرمان التي لا يتعدى حجمها ميليمتراً واحداً احتفظت بآثار لحاء أشجارٍ وبذور دقيقة، الأمر الذي يتيح فهم نوع الأشجار التي ازدهرت هناك وطبيعة التربة والجو في ذلك الزمن.
هذه النتائج فتحت الباب أمام قراءةٍ جديدة لتاريخ القارة التي كانت خالية من الجليد، لتتبدّل ملامحها تدريجياً حتى أصبحت كما نراها اليوم.
مناخ دافئ وغابة معتدلة في أقصى الجنوب
تكشف الحفريات المصاحبة للكهرمان — ولا سيّما حبوب اللقاح وجذور النباتات — أن القارة القطبية لم تعرف الصقيع قبل تسعين مليون سنة، بل كانت تشهد مناخاً يشبه ما نراه الآن في المناطق المعتدلة؛ مواسم نمو طويلة، ودرجات حرارة أعلى، وأمطار كافية لنشوء غطاء نباتي كثيف. ويُعتقد أن الأشجار المنتشرة حينها كانت من نوع الصنوبريات التي أفرزت الراتنج لتتعافى من تلف الحشرات أو التغيّرات المناخية.
وهذا يربط بين تحولات تلك الغابة القديمة وتطور مناخ الأرض عبر العصور، ما يعزز فرضية أن تراكيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لعبت دوراً محورياً في الحفاظ على ذلك الدفء الطويل.
وماذا يعني هذا الاكتشاف لنا اليوم؟
يؤكد العلماء أن العثور على الكهرمان في القارة القطبية ليس مجرد اكتشافٍ جيولوجي، بل نافذة على مستقبل كوكبنا. ففهم كيف تغيّر مناخ الأرض من بيئة دافئة خضراء إلى صحراء جليدية يساعد في توقّع مصير الكتل الجليدية الحالية وارتفاع مستوى البحار مع تزايد ظاهرة الاحتباس الحراري.
ويمثّل هذا الدليل الجديد خطوة مهمة في إعادة بناء التاريخ المناخي للأرض، وتذكيراً بأن القارات ليست ثابتة في طبيعتها، بل تمرّ بدورات من السخونة والبرودة تعكس نبض الكوكب عبر ملايين السنين.
في النهاية، يعيد لنا الكهرمان العالق في صخور القطب الجنوبي قصة غابةٍ ضاعت منذ دهورٍ طويلة، لكنه يهمس أيضاً بتحذيرٍ واضح: الأرض قادرة على التغيّر الجذري حين تختل موازين مناخها — فهل نتعلّم من ذاك الماضي السحيق قبل أن نصنع مستقبلاً أكثر دفئاً مما يحتمله كوكبنا؟









