مفاجأة من العصور القديمة: النياندرتال أنشأوا مصانع لاستخراج الدهون منذ 125 ألف عام!

3 د
دراسة جديدة تكشف أن النياندرتال أداروا مصانع لاستخراج الدهون منذ 125 ألف سنة.
استخدموا العظام الكبيرة لاستخراج "دهن العظام" كوقود غذائي خلال فصول شح الأطعمة.
تم العثور في ألمانيا على أكثر من 120 ألف قطعة عظم و16 ألف أداة حجرية.
الاكتشاف يبرز التخطيط المتقدم والتنظيم الكبير لصيد النياندرتال وتخزين الغذاء.
يوفر الاكتشاف أدلة على الذكاء البيئي والتحكم بالنار لدى النياندرتال.
تخيل أنك تشاهد مجموعة صغيرة من البشر الأوائل وهم يتجولون في بيئة برية بعيدة، يشربون الماء من الجداول ويشعلون النار لتدفئة أجسادهم. ربما لن يخطر ببالك أن هؤلاء البشر البدائيين، المعروفين باسم النياندرتال، كانوا يديرون "مصانع" قديمة لاستخراج الدهون. ولكن دراسة جديدة مذهلة كشفت أن واقع حياتهم كان أبعد مما كنا نتخيله بكثير.
عثر علماء الآثار مؤخراً في موقع أثري يُدعى نيومارك-نورد 2 بألمانيا، على أدلة تؤكد أن النياندرتال احترفوا قبل حوالي 125 ألف عام مهنة استخراج الدهون الحيوانية من العظام بطريقة ممنهجة وواسعة النطاق. إذ لم تقتصر عملياتهم على كسر العظام الكبيرة للحصول على نخاعها، بل أقدموا على تحطيم العظام إلى قطع صغيرة جداً وطهوها في الماء على النار لاستخراج "دهن العظام" الغني بالمغذيات، وكان يعتبر الوقود الغذائي الضروري خلال فترات شح الأطعمة الأخرى.
كيف كان يتم تصنيع دهن العظام؟
كانت طريقة استخراج "دهن العظام" التي اعتمدها النياندرتال تشبه إلى حد كبير تلك المستخدمة حديثًا لدى بعض القبائل البدائية. حيث تُكسّر العظام بدقة باستخدام الحجارة، ثم توضع القطع الصغرى في إناء يحتوي على الماء، ويتم تسخينها لعدة ساعات حتى يتجمع الدهن بشكل واضح على سطح الماء ويُجمع بعناية للاستخدام كخزين غذائي، وذلك له أهمية كبيرة خاصة في فترات ندرة المواد الغذائية الأخرى خلال الشتاء الطويل.
وبالفعل، ما كشفته التنقيبات الأثرية في الموقع كان مثيراً للدهشة. فقد تم العثور على أكثر من 120 ألف قطعة عظم صغيرة من حيوانات كبيرة مثل الخيول والغزلان وحتى مواشي من فصيلة البقريات التي كانت منتشرة في أوروبا حينها، إلى جانب أكثر من 16 ألف أداة حجرية من الصوان استخدمت في هذه العمليات. الاكتشاف أشار بوضوح إلى أن النياندرتال اختاروا بعناية منطقة بحيرة محددة قرب هاله في ولاية ساكسونيا-أنهالت الحالية، لتصبح بمثابة نقطة مركزية لهذا الإنتاج الكبير والمعقد نسبياً.
وهذا الاكتشاف يرتبط بشكل وثيق مع فهم العلماء لأسلوب التخطيط والتنظيم لدّى النياندرتال؛ إذ تظهر آثار الموقع أنهم كانوا يقومون أحياناً بصيد الحيوانات في مناطق أخرى ثم يعيدون نقل أجزاء محددة من أجسامها إلى هذه المواقع الرئيسية لاستخراج الدهون لاحقاً، مما يسلط الضوء على وجود تخطيط متقدم وتنسيق بين المناطق خلال رحلات الصيد.
كما لم تتوقف قدرات النياندرتال عند إنتاج الدهون من العظام فقط، بل تمتد الأدلة لتشمل أساليب التخزين الغذائي. فمثلاً، تمكّنوا من إنشاء مستودعات أو مناطق حفظ للأطعمة التي لم يمكن استهلاكها فوراً، ما يوفر لهم مصدراً غذائياً مستقراً طوال العام.
وكذلك كشفت الأدلة أن النياندرتال كان لديهم القدرة على التحكم في بعض جوانب البيئة المحيطة مثل استخدام النار لتعديل أو التحكم في نمو النباتات المحلية، وهذا يعكس مستوىً غير متوقع من القدرة على التخطيط والذكاء البيئي والتنظيم لدى الإنسان القديم.
يتفق العلماء الآن على أن هذا الاكتشاف يُعتبر أقدم دليل موثق بشكل واضح على ممارسات استخراج الدهون واسعة النطاق في تاريخ البشرية، ما يؤكد أن النياندرتال كان متكيفاً بشكل ذكي ومعقد أكثر مما كنّا نعتقد بشكل عام.
تفتح هذه النتائج آفاقاً جديدة لفهمنا لتاريخ النياندرتال تحديداً، وتطرح أسئلة أخرى مثيرة للاهتمام حول كيف كانت حياتهم الاجتماعية وتنظيم أعمالهم اليومية. لا شك أن الدراسات المستقبلية ستساعدنا في كشف المزيد من الأسرار عن الحياة المعقدة التي ربما عاشها النياندرتال في تلك الحقبة المهمة من تاريخ الإنسانية.