هل فكرت يوماً كيف تجد المركبات الفضائية طريقها في الفضاء الواسع بدون أنظمة الملاحة المعتادة!؟

3 د
نجحت مركبة "نيو هورايزونس" في استخدام النجوم للملاحة في الفضاء العميق.
استخدمت التقنية الجديدة اختلاف المنظور النجمي لتحديد موقع المركبة بدقة كبيرة.
يمثل هذا الإنجاز خطوة نحو تحسين تقنيات الملاحة الفضائية المستقبلية المبتكرة.
النجاح في استخدام التقنية يفتح الباب لاستكشاف أبعد في الكون.
تغذي هذه النجاحات الطموحات لرحلات فضائية نحو الكواكب والنجوم البعيدة.
اليوم لدينا إنجاز غير مسبوق حققته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا عبر مركبتها الشهيرة "نيو هورايزونس"، يتمثل بالنجاح في توجيه المركبة في الفضاء العميق مستخدمة فقط النجوم، في تجربة هي الأولى من نوعها في تاريخ استكشاف الفضاء.
تخيّل أنك في رحلة طويلة وسط الكون، بعيداً بأكثر من 5.5 مليار ميل عن الأرض، ولا تملك سوى النجوم دليلاً لإرشادك. هذا بالضبط ما جسّدته رحلة "نيو هورايزونس"، حيث تمكنت المركبة من تصوير نجمين قريبين منا—"بروكسيما سنتوري" و"وولف 359"— ومن خلال متابعة تغيّر مواقعها الطفيف (ما يعرف بـ"الاختلاف المنظوري النجمي" أو Stellar Parallax)، استطاعت المركبة تحديد موقعها بدقة هائلة في الفضاء.
تقنية مبتكرة تغيّر قواعد الملاحة الفضائية
قامت التجربة التي عمل عليها فريق دولي من علماء الفلك بتوضيح كيفية عمل تقنية الاختلاف المنظوري، والتي تعني أن النجم الواحد يبدو وكأنه يتحرك قليلاً عند النظر إليه من نقاط مختلفة في الفضاء. واستخدم العلماء صور النجمين من موقع المركبة البعيد، وقارنوا ذلك مع الصور المأخوذة من الأرض في نفس التوقيت. نتيجة هذه المقارنة كانت مذهلة بالفعل، حيث تم تحديد موقع المركبة في الكون بدقة شديدة، وصلت نسبة الخطأ فيها إلى 4.1 مليون ميل فقط، وهذه النسبة بمثابة قياس مسافة صغيرة جداً كما لو كانت تساوي أن تخطئ قياسًا في المسافة بين نيويورك ولوس أنجلوس بأقل من متر واحد!
تعتبر هذه الخطوة إنجازاً عملياً رائعاً في مجال الاستكشاف الفضائي، ورغم أنها ما تزال مجرد تجربة مبدئية، إلا أنها تمهد الطريق بقوة لتقنيات ملاحة مستقبلية أكثر تطوراً ودقة. الباحث تود لاور من مختبر "NOIRLab" الأمريكي أكد أهمية التجربة، وقال: "كان هدفنا هو إظهار مفهوم الاختلاف المنظوري بصورة حية وواضحة، الأمر الذي حدث بالفعل من خلال هذه التجربة".
وانسجامًا مع هذا النجاح، ستشكل تجربة "نيو هورايزونس" أساساً مهماً في التخطيط لرحلات فضائية أخرى تتجاوز المجموعة الشمسية، بالإضافة إلى فتح أبواب جديدة أمام البشرية لاستكشاف النجوم القريبة وربما يوماً ما زيارة كواكب تدور حول أنظمة نجمية بعيدة.
وفي الواقع، تم إطلاق "نيو هورايزونس" في البداية لدراسة كوكب بلوتو وأقماره، لكنها بعد تحقيقها التاريخي في عام 2015 خلال مرورها بجوار بلوتو، تحولت لمهمة ذات طابع كوني أوسع. وهي الآن تواصل تنفيذ مهمتها الموسعة بالسفر في أعماق النظام الشمسي تجاه الحافة الخارجية الغامضة المعروفة بـ "حد الصدمة النهائية" أو ما يُعرَف بـ "Termination Shock"، وهي المنطقة التي تفصل النظام الشمسي عن عمق الفضاء الكوني بين النجوم.
الآفاق المستقبلية لرحلات الفضاء
هذا النجاح يعطي إشارة واضحة أن التقنية الجديدة للملاحة الفضائية عبر النجوم ستكون مهمة بشكل حيوي مع إطلاقنا لمهمات أكثر تعقيداً وأبعد مسافة نحو النجوم الأخرى. سيتوسع هذا التأثير الهام عبر كثير من الرحلات الفضائية المستقبلية، خصوصاً تلك التي ستستكشف المناطق البعيدة في الكون، أو حتى الكواكب التي تدور حول النجوم البعيدة.
ومع تطور هذه التقنيات الجديدة وتطبيقها في مهمات أخرى لاحقة، قد نجد أنفسنا قريباً نوجه مركباتنا نحو كواكب ونجوم لم يكن من الممكن مجرد التفكير في الوصول إليها سابقاً. ومع ترقب العبور المرتقب لمركبة "نيو هورايزونس" في السنوات المقبلة على حدود النظام الشمسي، ستتوسع معرفتنا ونتمكن من فهم طبيعة الكون بين النجوم بمستوى أعمق وأكثر تفصيلاً مما كنا نتصور.
وختاماً، فإن تجربة "نيو هورايزونس" اليوم هي مثال حي يُبرز قوة العلم والتقنية، وتشجع على الاستمرار في تطوير تقنيات أكثر إبداعاً واستكشاف المزيد من فرص التواصل والتفاعل مع هذا الكون الكبير من حولنا. قد تكون الرحلة إلى النجوم بعيدة الأمد، لكن بفضل هذه التجارب الرائدة، فإنها تبدو اليوم أكثر واقعية وقرباً من أي وقت مضى.