ذكاء اصطناعي

وداعاً للصم… طفل يسمع صرخات الحياة بفضل جينات معدّلة!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

خضعت الطفلة أوبال لعلاج جيني لفقدان السمع الخلقي واستعادت سمعها بشكل كامل.

اكتشف الأطباء أن فقدان السمع ناتج عن خلل في جين OTOF المسؤول عن بروتين أوتوفيرلين.

تصدر أخبار العلاج الجيني الأضواء وسيحل محل بعض التدخلات التقليدية كالزراعة القوقعية.

يعزز التشخيص المبكر فرص العلاج الجيني الفعال للصمم الوراثي بحلول طبية تقدمية.

قصة أوبال تفتح آفاقًا جديدة للعائلات وتبرز الأمل في العلاج الجيني لأمراض السمع.

أن يولد الطفل وقد حُرم من نعمة السمع، كان إلى وقت قريب بمثابة حكم نهائي يصعب تغييره. لكن قصة الطفلة أوبال ساندي، من مقاطعة أوكسفوردشير البريطانية، قلبت هذه المعادلة رأساً على عقب، بعدما أصبحت أول طفلة في العالم تخضع لعلاج جيني مخصص لفقدان السمع الخلقي وتبدأ في سماع الأصوات بشكل طبيعي تقريباً. هذه القصة لا تحمل فقط بشرى لعائلتها، بل تفتح صفحة جديدة في عالم الطب الوراثي وتنير درب الأمل لعشرات الآلاف من الأسر حول العالم.

بدأت رحلة أوبال عندما اكتشف الأطباء أنها تعاني من الصمم التام بسبب اضطراب وراثي نادر يُدعى "الاعتلال السمعي العصبي"، حيث يتعطل انتقال الإشارات العصبية من الأذن الداخلية إلى الدماغ. هذا الخلل يرجع إلى طفرة في جين يُدعى OTOF المسؤول عن إنتاج بروتين يُسمى أوتوفيرلين، عنصر أساسي لتواصل الخلايا السمعية عبر العصب السمعي. وحتى وقت قريب، لم يكن هناك علاج جذري لهذه المشكلة الوراثية، سوى زراعة القوقعة أو الاعتماد على الأجهزة المساعدة.


العلاج الجيني: ولادة أمل جديد


وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن للعلاج الجيني أن يغير حياة طفل وُلد فاقداً للسمع؟ التجربة السريرية "كورد" التي انطلقت في مايو 2023، جاءت بإجابة عملية؛ حيث تمت معالجة أوبال باستخدام جرعة صغيرة من فيروس آمن محمل بنسخة سليمة من الجين المعطوب. جرى حقن هذا الخليط مباشرة داخل القوقعة – العضو المسؤول عن تحويل الصوت إلى إشارات عصبية – خلال عملية جراحية دقيقة وتحت التخدير الكامل. بنفس الجلسة، تم زرع جهاز قوقعة في الأذن الأخرى احتياطاً.

هذه الخطوة العلمية الجريئة لم تمر دون نتائج مذهلة. بعد أربعة أسابيع فقط من العملية، بدأت أوبال تلتفت إلى أصوات الطرق والتصفيق بحماس لم تألفه عائلتها من قبل؛ لتتأكد لدى الأطباء لاحقاً تحسن سمعها بصورة متواصلة حتى وصولها لمستوى قريب من المعدلات الطبيعية عند الأطفال، خاصة الأصوات الهادئة والهمسات. بهذا المعجزة الطبية، أصبحت أوبال قادرة على الاستجابة لصوت والديها والتلفظ بكلمات بسيطة مثل "بابا" و"وداعاً".

ويبدو أن ما تحقق مع أوبال لم يكن بضربة حظ، بل هو ثمرة أعوام من الأبحاث الجينية. تشير التقديرات إلى أن نحو عشرين ألف شخص عبر أوروبا يعانون من الصمم الوراثي بسبب الطفرة ذاتها. ولأن الطفرة تعطل فقط عملية التواصل بين خلايا الأذن الداخلية والعصب دون إتلاف الخلايا نفسها، غالباً ما يتم اكتشاف هذه الحالات متأخراً، أي مع تأخر الكلام لدى الطفل عند عمر عامين أو ثلاثة، ما يصعب عملية التدخل المبكر ويترك العائلات أمام حيرة الأسباب والتشخيص.

هذه النتائج المبهرة لم تمر مرور الكرام في المجتمع الطبي. أحد كبار أطباء الأنف والأذن والحنجرة المشاركين في التجربة علّق قائلاً إن هذا الحدث يمثل بداية مرحلة جديدة للعلاج الجيني في مجال علاج ضعف السمع، لا سيما للأمراض الوراثية التي كانت تعتبر غير قابلة للعلاج سابقاً. وأضحى من المرجح أن يحل العلاج الجيني مستقبلاً محل بعض التدخلات التقليدية كزراعة القوقعة أو الأجهزة السمعية، خاصة في ظل البساطة النسبية للعملية وانخفاض الآثار الجانبية الناتجة عن توجيه العلاج مباشرة إلى الأذن دون عابره للجسم كله.

وانطلاقاً من أهمية التشخيص المبكر، ظهر أن فحص الجينات جزء رئيسي من استراتيجيات المستشفيات المتقدمة، حيث أمكن التعرف على إصابة أوبال حين كانت في أسبوعها الثالث، خاصة أن أختها الكبرى تحمل نفس الطفرة الوراثية. يذكر أن الطفرات في جين OTOF يمكن كشفها عبر اختبارات الحمض النووي الروتينية المتوفرة في هيئة الصحة البريطانية.


توسيع نطاق الأمل: ترقب عالمي لتطبيقات جديدة


مع توسع التجربة السريرية التي تدعمها جهات بحثية عالمية ومراكز متخصصة مثل جامعة كامبريدج، يجري حالياً تطبيق مراحل مختلفة من العلاج بدءاً بجرعات منخفضة ثم مرتفعة، مع التركيز على مراقبة سلامة وفعالية العلاج. كما يتوقع أن يساعد هذا النموذج في تطوير علاج جيني لأمراض وراثية سمعية أكثر شيوعاً، مما يعزز فرص استعادة السمع بجودة طبيعية ودون معاناة الأجهزة المزروعة الطويلة الأمد أو الصيانة المكلفة التي تصاحب البدائل التقليدية.

وهذا بطبيعة الحال يربط بين مكانة العلاجات الجينية اليوم ومستقبل الرعاية الصحية للسمع، خاصة في العالم النامي، حيث يطمح الخبراء إلى علاج سهل المتابعة وقليل التكلفة، كما أشار الباحثون المشرفون على دراسة أوبال. إضافة إلى أن المتابعة الطبية لأوبال والأطفال المشاركين في التجربة على مدار ثلاث إلى خمس سنوات ستوضح مدى قدرة الأطفال على تمييز الكلام وفهمه أثناء نموهم، وهو مؤشر محوري في تقييم النجاح بعيد المدى.

ذو صلة

وبينما تتوجه الأنظار إلى المؤتمرات العلمية التي تستعرض هذه التطورات، تبقى الرسالة الأهم للأسر والعائلات أن الصمم لم يعد بالضرورة نهاية الحكاية، بل من الممكن أن يكون مجرد بداية مرحلة أنتجها الإنجاز العلمي. ويبقى الأطباء، إلى جانب المؤسسات الداعمة، يؤكدون أن توفير سبل الدعم من البداية يساعد الطفل الأصم على تحقيق حياة سعيدة وناجحة بغض النظر عن الخيارات الطبية، وهو ما يدعم فلسفة الاندماج الاجتماعي وعدم وضع الحواجز أمام الأطفال مهما كانت ظروفهم الجينية.

وفي نهاية المطاف، تحولت قصة أوبال إلى نقطة تحول مفصلية في رحلتنا مع الصمم الوراثي، ورسالة تدق باب المستقبل، تحمل معها وعداً بأن الابتكارات الطبية في العلاج الجيني ستعاد رسم خرائط الأمل لعائلات لم تكن تحلم سوى بسماع أول كلمة من أفواه أطفالها.

ذو صلة