ولادة جزيرة من قلب المحيط… ظاهرة نادرة تُربك العلماء!

3 د
ولدت جزيرة جديدة قرب سواحل آيسلندا بعد انفجار بركاني مذهل.
سرتسي تشكلت كمختبر طبيعي مفتوح لتطور النظام البيئي من الصفر.
ساهمت الطيور في نشر البذور وبناء النظام البيئي على الجزيرة.
أصبحت الفقمات جزءاً من توازن النظام البيئي للجزيرة.
رغم التآكل، تبين سرتسي مرونة الحياة وتجدد الطبيعة الدائم.
في مشهد نادر تخطى حدود الخيال العلمي، ولدت جزيرة جديدة من قلب المحيط قرب السواحل الجنوبية لآيسلندا، لتتحول في فترة وجيزة إلى مختبر طبيعي مفتوح يكشف أسرار نشوء الحياة من الصفر. هذه الجزيرة، المعروفة باسم **سرتسي (Surtsey)**، لم تكن مجرد انفجار بركاني عابر، بل كانت بداية رحلة مدهشة لتطور النظام البيئي دون أي تدخل بشري.
إن ما جعل سرتسي حالة فريدة هو ندرة تكوين جزر جديدة من البراكين تحت أعماق البحر، إذ تشير تقديرات العلماء إلى أن مثل هذه الظاهرة لا تتكرر إلا كل ثلاثة إلى خمسة آلاف عام. ومع ذلك، لم تلتهمها الأمواج كما يحدث لمعظم الجزر الحديثة التكوّن، بل صمدت أمام عوامل التعرية والرياح العاتية، لتبدأ فصلاً جديداً من فصول الحياة.
وهذا يربط بين أولى لحظات ولادة الجزيرة وطموحات العلماء في تتبع النشوء الطبيعي للحياة من دون أن تطأها قدم إنسان.
من فوهة النار إلى مهد الحياة
في نوفمبر عام 1963، انفجر بركان تحت سطح البحر، ودفع بالمادة المنصهرة لتطفو فوق المياه، مولدة جزيرة رمادية اللون بدأت تنمو بسرعة مذهلة. وبعد أقل من عام، وطئت أقدام العلماء سطحها لأول مرة، ليجدوا أن البذور والنباتات الصغيرة بدأت بالفعل تستقر هناك، رغم استمرار تدفق الحمم. لقد كانت المفاجأة الأكبر أن الحياة استعادت أنفاسها بهذه السرعة فوق أرض عمرها أيام فقط.
ومع مرور الوقت، بدأت أسراب الطيور، وخاصة طيور النورس، تحط فوق الجزيرة. ولم يأت دورها كمراقب فحسب، بل أصبحت عنصراً جوهرياً في بناء النظام البيئي الناشئ. فقد جلبت هذه الطيور بذوراً عالقة بريشها أو مختلطة بمخلفاتها، حاملةً معها أولى إشارات التوازن البيولوجي.
هذا التطور الطبيعي يمهد للحديث عن التحول المذهل الذي أحدثته الكائنات الحية في شكل الجزيرة على مر العقود التالية.
بصمة الطيور في بناء النظام البيئي
بحلول أوائل الثمانينيات، تحولت الجزيرة إلى مستعمرة نشطة للنوارس، ومعها بدأت النباتات العشبية بالنمو بفضل الغوانو (مخلفات الطيور) الغني بالعناصر الغذائية. لقد غيرت هذه الطيور خريطة الأرض الصخرية، ممهّدة التربة لاستقبال أنواع جديدة من النباتات، ومثبتة بذلك أن الحياة لا تنتظر الظروف المثالية كي تبدأ.
ويؤكد علماء الأحياء أن ما حدث على سرتسي قلب بعض النظريات الكلاسيكية في علم التطور؛ إذ اعتقد داروين ومن جاء بعده أن النباتات ذات الثمار اللحمية فقط تستطيع الانتقال عبر الطيور، لكن الجزيرة أثبتت العكس، إذ وُجدت أنواع بلا ثمار لحمية تمكنت من العيش هناك بفضل النقل الطبيعي عبر الطيور.
هذا الاكتشاف الفريد فتح الباب أمام دراسات جديدة حول آليات انتقال الحياة بين البيئات المنعزلة.
الأختام والفقمات تدخل المشهد
بعد الطيور، جاءت مرحلة جديدة من التطور حين وجدت الفقمات الرمادية في الجزيرة ملاذاً آمناً للتكاثر بعيداً عن خطر الحيتان القاتلة. وجودها أضاف مصدراً جديداً للمواد العضوية، فمخلفاتها وبقايا المشيمة زادت خصوبة التربة، ما ساعد على ازدهار النباتات أكثر، وأوجد توازناً بيئياً معقداً لم يكن أحد يتوقع حدوثه بهذه السرعة.
وهذا يدل على الترابط الدقيق بين كل الكائنات في النظام البيئي، مهما صغرت أو عظمت.
دورة الحياة والعودة إلى الأصل
ومع أن الجزيرة لا تزال تحمل سحر البداية، إلا أن العلماء يعرفون أن مصيرها المحتوم هو التآكل البطيء بفعل الأمواج. بعض مناطقها بدأ بالفعل يختفي تحت الماء، في مشهد يذكّر بأن الطبيعة لا تمنح الحياة للأبد بل تعيد ما وهبته إلى البحر.
لكن مغزى سرتسي لا يقتصر على مشهد جيولوجي آسر، بل يقدم درساً بيئياً عميقاً في قدرة الكوكب على التجدد الذاتي واستعادة التوازن بعد الكوارث. إنها شهادة مادية على مرونة الحياة وإصرارها على الازدهار حتى فوق الرماد.
في نهاية المطاف، تبقى سرتسي رمزاً لما يمكن للطبيعة أن تخلقه حين تترك وشأنها، ومصدر إلهام للعلماء الذين يبحثون عن إجابات حول كيف تنشأ الحياة وتستمر رغم كل الصعاب.









