ذكاء اصطناعي

12 ألف عام من الخداع… التحنيط ليس اختراع المصريين!

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تلمح دراسة حديثة إلى وجود المومياوات في جنوب شرق آسيا قبل 12 ألف عام.

تشير الأدلة إلى استخدام النار والدخان كوسائل لحفظ الجثث.

الممارسات تدل على نية واعية لحفظ الأجساد، وليس صدفة طبيعية.

يثير الاكتشاف جدلاً علميًا حول مواعيد وتقنيات التحنيط القديمة.

يبدو أن تاريخ التحنيط أقدم بكثير مما اعتقدناه. فبينما ارتبطت المومياوات عادةً بمصر القديمة وبممارسات شعوب الأنديز في تشيلي والبيرو، تكشف دراسة حديثة أن محاولات حفظ الجثث قد بدأت ربما قبل 12 ألف سنة في جنوب شرق آسيا، أي قبل آلاف السنوات مما كان معروفاً. هذا الاكتشاف يعيد كتابة فصل مهم من تاريخ الطقوس الجنائزية والذاكرة البشرية.


بداية جديدة لتاريخ المومياوات


في العادة، تنصرف مخيلتنا إلى الأهرامات، التوابيت الذهبية أو مومياوات تشينتشورو على سواحل أميركا الجنوبية. لكن ما توصل إليه باحثون من اليابان ودول عدة يشير إلى أن بقايا بشرية وُجدت في الصين وفيتنام والفلبين ولاوس وتايلاند وماليزيا وإندونيسيا تحمل أدلة واضحة على عمليات حفظ متعمدة للجثث. وهذا يعني أن التحنيط قد بدأ في مجتمعات الصيادين وجماعات ما قبل الزراعة بآسيا، قبل أن يصل إلى وادي النيل أو صحراء أتاكاما بآلاف السنين.

وهذا الانتقال من الصورة النمطية إلى معطيات جديدة يوضح أن المومياوات لم تكن حكراً على حضارة واحدة بل كانت جزءاً من وعي بشري مشترك حول الموت والذاكرة.


النار والدخان بدل الرمال والكهوف


ما أثار دهشة الباحثين هو أن العظام المكتشفة كانت تحمل آثار احتراق جزئي وعلامات قطع، وهو ما فُسر في البداية كأدلة عنف أو طقوس حرق. لكن تحليلاً معمقاً كشف أن الجثث عُرضت لحرارة منخفضة ودخان متواصل فيما يُعرف اليوم بعملية «التجفيف بالتدخين». هذه التقنية تشبه طرق تدخين الطعام أو حفظ اللحوم، لكنها استُخدمت بهدف إبطاء تحلل الجسد وتمديد بقائه.
وهنا، يظهر الربط الطبيعي بين تلك الطرق البدائية وطقوس ما زالت متبعة في مجتمعات السكان الأصليين في بابوا غينيا الجديدة وأستراليا، حيث يعتقد الناس أن المفقود يبقى جزءاً فاعلاً من حياة الجماعة.

وهذا يربط بين مكتشفات ما قبل التاريخ والتقاليد الحية في مجتمعات اليوم، ليرسم خيطاً ثابتا عبر آلاف السنين.


نية واضحة وليست صدفة طبيعية


بعكس المومياوات الطبيعية التي قد تحفظها البيئة الصحراوية الجافة أو المستنقعات، فإن البقايا المكتشفة في آسيا لم تكن نتاج الظروف المناخية. الحالة الجيدة للأجساد وأدلة التعرض للنار تثبت أن الحفظ كان مقصوداً بوعي الإنسان نفسه. الباحث هيروفومي ماتسومورا من جامعة سابورو للطّب أشار إلى أن هذه الممارسة كانت وسيلة لتمكين الأحياء من مواصلة العلاقة الروحية مع أسلافهم، وكأن الموت لم يكن نهاية بل مرحلة عبور.
وطبيعة هذا الترابط تؤكد أن الهدف من التحنيط لم يكن مادياً بقدر ما كان ثقافياً، يعكس احتراماً لعالم الأرواح واعتقاداً بأن الأسلاف يمكن أن يوجّهوا الحاضر.

وهذا يعيدنا إلى صميم فكرة المومياوات، ليس كمجرد جثث محفوظة، بل كرموز للاستمرارية والذاكرة الجماعية.


جدل علمي متواصل


رغم قوة الأدلة، يتعامل بعض العلماء مع هذه النتائج بحذر. ريتا ستيرنا، المتخصصة بعلم التطور البشري في جامعة أوبسالا، ترى أن طرق التأريخ بحاجة إلى تدقيق إضافي، وأن انتشار التقنية على مدى واسع ما زال قيد النقاش. إلا أن الاعتراف بإمكانية وجود أقدم مومياوات خارج وادي النيل أو الأنديز يفتح باباً جديداً لفهم طقوس الموت عند الإنسان المبكر.

هذا التباين بين الحذر العلمي والحماس للاكتشاف يعكس أن البحث لم ينته بعد، بل إنه بداية لمسار جديد سيفتح النقاش بين علماء الآثار والأنثروبولوجيا.


خاتمة

ذو صلة


الدراسة الجديدة تضع جنوب شرق آسيا في صدارة تاريخ المومياوات، بعد أن كانت منسية في ظل شهرة مصر والبيرو. من خلال النار والدخان والذاكرة، استطاعت جماعات بشرية بدائية أن تتحدى قوانين التحلل وتحفظ أجساد موتاها لآلاف السنين، لا بدافع التقديس وحده بل لتعزيز العلاقة مع الماضي وتأكيد استمرار الهوية. وبينما يحتاج هذا الطرح إلى المزيد من الأبحاث، فإنه يذكرنا بأن الإنسان منذ فجر التاريخ سعى بكل ما أوتي من حيلة ليبقى متصلاً بأصوله وأجداده، في مواجهة العابر الوحيد: الزمن.

ذو صلة