20 ألف قدم تحت البحر… البيض الأسود يكسر قوانين الطبيعة!

4 د
اكتشف الباحثون أربع كريات سوداء غامضة على عمق 20 ألف قدم في المحيط الهادئ.
الكريات المكتشفة تحتوي على أجنة ديدان مسطحة تُعرف باسم "شرانق البيض".
أظهر التحليل أن شرانق البيض تعود لديدان من مجموعة "تريكلايدات" التي كانت تعتبر محصورة في البيئات الساحلية.
اكتشاف الشرنقة الحية في أعماق المحيط يعد إنجازًا علميًا لتوسيع فهم حياة الكائنات العميقة.
هذا الاكتشاف يثير التساؤلات حول تكيف الأنواع البحرية في بيئات الضغط العالي والبرد القارس.
وسط ظلام الأعماق السحيقة للمحيط الهادئ، وعلى عمق يقارب 20 ألف قدم تحت سطح الماء أي ستة كيلومترات تقريباً، اكتشف فريق بحث علمي أربع كريات سوداء لامعة ومجهولة معلقة على صخرة، لتتوقف مهمتهم عند مشهد لم يتوقعوه أبداً. فقد بدا للوهلة الأولى أن هذه الكُتل عبارة عن بيض، لكن لونها الداكن وملمسها المصقول لم يكن مألوفًا حتى بالنسبة للباحثين المخضرمين في علوم البحار.
ولأن الغموض أحاط بهذه الأشكال الغريبة حتى بعد إخراجها إلى سطح السفينة، بدأ العلماء رحلة التحليل والفحص. لم تكون تلك البيوض لعالم الأسماك كما ظن البعض بدايةً، بل كانت كبسولات صغيرة قاسية تُسمى "شرانق البيض"، تضم كل واحدة منها أجنة ديدان مسطحة (flatworms) في طور النمو، والتي ستنطلق لاحقًا لتعيش على قاع البحر. وبهذا، أصبح أمام العلماء لغز يربط البيئة القاسية لأعماق المحيطات بتطور حياة كائنات دقيقة غير معروفة من قبل.
هذا الاتصال بين التكهن العلمي والاكتشاف الفعلي قاد الباحثين إلى الكشف عن مفاجأة أخرى: الشرانق لم تتجاوز 0.12 بوصة عرضاً، وتحديد الموقع الدقيق لها كان منحدراً قرب خندق عميق في شمال غرب المحيط الهادئ. ومن خلال الربط مع الاكتشافات السابقة، تبين أن هذه المنطقة مصنفة ضمن ما يعرف بـ"منطقة الهاديال" أو الأخدود المحيطي، وهي الأعماق الأكثر عزلة وغموضاً على وجه الأرض حيث يبدأ قاع البحر بالانحدار إلى أكثر من 20 ألف قدم ويصل إلى القيعان الأعمق للكوكب.
إعادة تشكيل خريطة أعماق المحيط
وما هذا إلا جزء من القصة، إذ كشفت التحاليل الوراثية والمجهرية الدقيقة في مختبر جامعة هوكايدو في اليابان تفاصيل مدهشة حول هذه الشرانق وأجنّتها. اتضح أن البيوض المكتشفة خاصة بديدان ثلاثية الفصوص البحرية من مجموعة تُعرف علمياً بالـ«تريكلايدات»، والتي لطالما اعتبرها العلماء محصورة في البيئات الساحلية والبحيرات الضحلة، وليس في قيعان البحار العظيمة. هذا التغيير المفاجئ في توزيع الكائنات يثير كثيراً من التساؤلات حول قدرة الأنواع البحرية على الهجرة والتكيف مع الضغوط الهائلة ودرجات الحرارة المتجمدة وشح الغذاء في مناطق العتمة النهائية للكوكب.
في الواقع، يعتبر هذا الاكتشاف أول تسجيل لشرانق ديدان مسطحة حية في أعماق تزيد على 20 ألف قدم، فيما كانت الدراسات السابقة لم توثق وجودها إلا على أعماق أقل بكثير. كما أن الجديد في البحث هو تقديم أول وصف لمراحل الحياة المبكرة لهذه الديدان في المنطقة المُسماة "المنطقة السحيقة"، مما يوسع من فهم العلماء لدورة الحياة في هذه الأعماق القصوى.
وهذا يضعنا أمام مهمة علمية لا تتعلق فقط بالتعرف على أنواع جديدة أو غير متوقعة، بل بإعادة النظر في النظريات القديمة عن تاريخ هجرة وتطور الحياة في المحيطات. بتحليل الحمض النووي للأجنة بداخل الشرانق، وجد العلماء أن هذه الديدان أقرب إلى أقربائها الساحلية، ما يعني أن أجدادها جاءوا من البيئات القريبة من الشواطئ وتوسعوا لاحقاً نزولاً نحو هاويات المحيط، وليس العكس.
تحديات البقاء والتكاثر في عتمة الأعماق
واستكمالاً لهذا المسار، يبرز سؤال جوهري: كيف تنجح ديدان مسطحة بهذا الحجم الصغير وتلك البنية البسيطة في البقاء والتكاثر تحت ضغط مائي مهول وظروف بيئية تكاد تكون مستحيلة لمعظم أشكال الحياة؟ تكشف الشرانق الصلبة، وتجمُّع الأجنة بداخلها، وتمسكها بالصخور عن حيلة طبيعية بالغة الذكاء تعتمد على الحماية والصبر بدلاً من سرعة التكيف، ما يضمن للأجنة فرصة النضج دون تعرّضها لمصادر الخطر الكثيرة التي تحوم في هذه البيئة المعادية.
وبعد ذكر ذلك، يضيف الاكتشاف بعدًا مهمًا لتفسير معرفة العلماء بكيفية بقاء البيوض والأجنة في درجات حرارة تقارب التجمد وكميات طعام شبه معدومة. الهياكل الصلبة والشرانق الجماعية قد تكون التكيف الأمثل للبقاء الطويل دون الحاجة لتغير سريع في النمو أو شكل الجسم، ما يؤكد مساهمة هذا البحث في تغيير النظرة إلى دورة حياة الكائنات في البحار العميقة.
أهمية الاكتشافات واستمرارية البحث العلمي
جمع الشرانق سليمة بهذه الصورة يُعد إنجازًا استثنائيًا بحد ذاته، خاصة وأن العمليات التقليدية لجمع عينات من الأعماق غالباً ما تحطم الكائنات الدقيقة الحساسة قبل فحصها. والآن، مع إضافة معلومة دقيقة كهذه، يتمكن علماء الأحياء البحرية من ملء فجوة معرفية لطالما سببت لهم الحيرة حول تفاصيل دورات حياة الكائنات شديدة التخصص لسكان الأعماق المظلمة.
وهكذا، يرتبط هذا الإنجاز بحاجة مستقبلية ملحة لتطوير وسائل الرصد والتتبع والبحث الدقيق في هذه المناطق النائية من الكوكب. فقد كشفت الشرانق السوداء عن أسرار تطور الحياة في القيعان وخلقت دافعاً جديداً لسبر أغوار مناطق مازالت الأسرار فيها هي العنوان الأكبر.
في النهاية، يعكس هذا الاكتشاف عمق التنوع البيولوجي في كوكبنا، ويؤكد أن كل ما نظنه بسيطاً أو معروفاً قد يكمن في داخله أسرار مذهلة في انتظار من يكتشفها. وبين الصخور المتجمدة في ظلمة المحيط، تبني ديدان مسطحة حياة معقدة ومتكيفة بإصرار، لتروي لنا حكاية البقاء والتطور بتفاصيل لم نكن لنتخيلها يوماً.









