24 مليون سنة من الأسرار: كيف تنبض بروتينات وحيد القرن القديمة بالحياة من جديد؟

4 د
اكتشاف بروتينات عمرها 24 مليون عام من حفرية وحيد قرن في القطب الشمالي الكندي.
البروتينات توفر تفاصيل وراثية دقيقة تتجاوز قدرة الحمض النووي على الحفاظ بعيد المدى.
التقنيات الحديثة مثل "تحليل الأحماض الأمينية اللولبية" تثبت أصالة البروتينات القديمة.
الاكتشاف يساهم في فهم الانقسام التطوري لوحيد القرن وماضي الكائنات المنقرضة.
التقدم في تقنيات التحليل يعد بفتح آفاق جديدة لدراسة التطور وفهم تاريخ الحياة.
هل تخيلت يومًا أننا قد نتمكن من معرفة تاريخ كائنات عاشت على كوكبنا قبل ملايين السنين؟ تبدو الفكرة خيالية قليلة، أليس كذلك؟ لكن فريقًا علميًا بقيادة الدكتور مارك ديكنسون من جامعة يورك نجح مؤخرًا في تحقيق هذا الإنجاز الرائع باستخراج بروتينات قديمة يعود عمرها إلى 24 مليون سنة من حفرية لوحيد قرن نجت من الزمن في القطب الشمالي الكندي.
هذا الاكتشاف المدهش، والذي نُشرت تفاصيله في دراسة حديثة بمجلة "Nature"، جاء من دراسة تحليلية عميقة لأحد أسنان وحيد القرن الذي يعرف باسم "إبياكيراتيريوم"، والمصنف ضمن فصيلة محددة من حيوانات وحيد القرن، عاشت في حقبة الميوسين المبكرة. والغريب حقًا هو أن هذه البروتينات بقيت محفوظة طوال هذه الفترة الطويلة، ما أعطى العلماء فرصة فريدة لرؤية التفاصيل الوراثية عن قرب لم تكن ممكنة من قبل، خاصة مع صعوبة بقاء الحمض النووي (DNA) لمثل هذه الفترات الطويلة.
بروتينات الماضي تثبت تفوقها على الحمض النووي في حفظ الأسرار القديمة
عادةً اعتاد العلماء أن يعتمدوا بشكل أساسي إما على العظام والهياكل الأحفورية أو الحمض النووي في تتبع المسارات التطورية. لكن مشكلة الحمض النووي هي أنه يتحلل بسرعة نسبية، ولا يبقى عادة واضحًا لأكثر من مليون سنة على الأكثر. بالمقابل، تتمتع البروتينات بقدرة أكبر بكثير على الاحتفاظ بتركيبتها الكيميائية لفترات زمنية أطول، ما جعلها اليوم أداة علمية ثمينة لمعرفة تفاصيل أقدم عصر بيولوجي للكائنات.
لم يقف الباحثون عند فكرة قدرة البروتينات على البقاء الطويل، بل استخدموا تقنية متطورة للغاية، تُعرف بـ "تحليل الأحماض الأمينية اللولبية" (Chiral amino acid analysis)، للتأكد تمامًا أن هذه البروتينات كانت أصلية ومنحفظة فعلًا من تلك الحقبة القديمة، وليست نتاج تلوث أو تحلل عرضي أحدث. وبهذه النتائج العلمية المثبتة بدقة عالية، صار بإمكان الباحثين فتح نافذة جديدة لاستكشاف ماضي كوكبنا البعيد.
وبالطبع، لم تقتصر أهمية البروتينات المُكتشفة على مجرد الجوانب التقنية، بل سمحت لما هو أبعد من ذلك. فقد استطاع الفريق العلمي إعادة دراسة الحقبة الزمنية التي حدث بها انقسام أسلاف وحيد القرن إلى نوعين من الفصائل الفرعية الكبرى، هما "إيلاسموثيرينيا" و"رينوسيروتينا". وكان الاعتقاد السائد سابقًا أن هذا الانقسام حدث منذ فترة أقدم بكثير، ولكن نتائج البروتينات أظهرت بوضوح أنه قد وقع بشكل أحدث مما تصورته الأبحاث السابقة، في فترة الأوليجوسين منذ حوالي 34 إلى 22 مليون سنة.
“المدهش فيما وصلنا إليه"، يقول الدكتور ديكنسون، "هو أن هذه الوسائل الحديثة لا تزال تدفع حدود إمكاناتنا إلى أزمان أبعد، لتكشف المزيد من الأسرار عن الحياة في عصور كان من المستحيل سابقًا فهمها بهذا الوضوح".
وتؤكد الدكتورة فضيلة منير، إحدى أبرز أعضاء الفريق العلمي، أن هذه الطريقة الجديدة تحفز العلماء حول العالم الذين يمتلكون مجموعات حفريات رائعة مشابهة لإعادة دراستها. فإمكانية تطبيق تقنية تحليل البروتينات القديمة على مزيد من الحفريات قد تفتح مجالاً أوسع لفهم التطور بصورة لم نشاهدها من قبل.
والأمر لا يقف عند وحيد القرن فحسب، بل تتعداه إلى إمكانية دراسة الأنواع المنقرضة الأخرى التي لم يكن متاحًا سابقًا الوصول إلى بياناتها الوراثية، ليصبح من الممكن أن نعيد تشكيل مسارات تطورها ومعرفة خصائصها وكيف عاشت وتكيفت مع بيئاتها عبر ملايين السنين.
هذه التجربة العلمية لا يمكن وصف أهميتها فقط على مستوى دراسة تاريخ وحيد القرن، وإنما هي خطوة واسعة نحو التعمق في دراسة وأبحاث التطور بأكمله. وإذ يشير د.ديكنسون إلى القيمة الكبيرة لهذه التجربة بالقول، "صار بإمكاننا اليوم طرح أسئلة مثيرة لم نكن نحلم بطرحها عن تطور الحياة على كوكبنا".
ونظرًا لازدياد إمكانات هذه الدراسات مع تطور تقنيات التحليل في السنوات المقبلة، فنحن أمام عصر قد يشهد تغيرًا كبيرًا في منهجية علم الحفريات، يتيح فهمًا جديدًا تمامًا لكائنات كوكبنا السابقين ويعيد صياغة معارفنا بالحياة وتاريخها على سطح الأرض.
مع استمرار علماء الحفريات والباحثين في توسيع استخدام البروتينات القديمة في دراساتهم، فلا شك أننا سنشهد المزيد من المفاجآت والاكتشافات التي ستزيد صورة الماضي وضوحاً وتُعزز من فهمنا العميق لتطور الحياة والحياة نفسها. وإن كان ثمة أمر واضح، فهو أن أبواب العلم لم تكن يومًا موصدة، بل تنتظر الكشف عن أسرار أعمق وأكثر تشويقًا كل يوم.