إنجاز علمي يفتح الأبواب: تطوير أول نموذج دماغي متكامل في المختبر يعيد الأمل في علاج الأمراض العصبية

4 د
نجح علماء في جامعة جونز هوبكنز بتطوير أول عضية دماغية "كاملة" في المختبر.
تعكس العضية نشاطًا كهربائيًا شبيهًا بأدمغة الأجنة، مما يعزز دراسة الأمراض العصبية.
استُخدمت خلايا جذعية متعددة القدرات لخلق خريطة تواصل عصبي تحاكي دماغ الجنيني.
يسهم الابتكار في تقليل فشل تجارب الأدوية بنسبة تفوق ٩٠٪ في الأمراض العصبية والنفسية.
يفتح الإنجاز آفاقًا جديدة لعلاجات فردية ويعزز إمكانيات الذكاء الاصطناعي الحيوي.
في مشهد يُشبه أفلام الخيال العلمي، استطاع فريق من الباحثين في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية تحقيق إنجاز ثوري قد يغير معالم طب الأعصاب إلى الأبد. فقد تمكن هؤلاء العلماء من تطوير أول عضية دماغية “كاملة” في المختبر، أي نموذج حي ثلاثي الأبعاد يحاكي الدماغ البشري بتشابكاته وأقسامه المختلفة. هذه الخطوة تعد طفرة واعدة في دراسة الدماغ واكتشاف علاجات جديدة لأمراض معقدة مثل الزهايمر وباركنسون، وهي أخبار تفتح باب الأمل أمام ملايين المرضى حول العالم.
البداية كانت بدراسة طموحة نشرت في مجلة "Advanced Science"، حيث أوضح الفريق البحثي أن العضية الجديدة تظهر نشاطاً كهربائياً مشابهاً لما يُلاحظ في أدمغة الأجنة البشرية بعمر أربعين يوماً. هذه العضية تتألف من كتل دقيقة من الخلايا العصبية، لكنها ليست مجرد تجارب مخبرية معزولة، بل تمثل بيئة بيولوجية ثرية يمكن من خلالها اختبار علاج اضطرابات عصبية ونفسية، بل وربما تصميم العلاجات بشكل شخصي لكل حالة.
من المختبر إلى فهم تطور الدماغ البشري
عند الغوص في عالم العضيات الدماغية، نجد أن معظم النماذج السابقة ركزت على منطقة واحدة فقط، مثل القشرة الدماغية أو النخاع المستطيل. لكن التحدي الأكبر كان في جمع كل مناطق الدماغ داخل نموذج واحد وتشبيكها بطريقة تجعلها تتفاعل وتنتج إشارات كهربائية كتلك الموجودة في دماغ الإنسان الطبيعي. هذه الأنظمة تُعرف بعضية "متعددة المناطق" أو MRBO، وتشمل مكونات حيوية مثل الحاجز الدموي الدماغي وخلايا الأوعية الدموية، وهي هياكل ضرورية لحماية الدماغ وفهم أمراضه بدقة.
وبالاعتماد على أحدث تقنيات الخلايا الجذعية، استخدم الفريق خلايا جذعية متعددة القدرات – وهي خلايا بإمكانها أن تتحول لأي نوع من أنسجة الجسم، ومنها الخلايا العصبية. قاموا لاحقاً بإنماء كل منطقة دماغية على حدة ثم دمجها ببروتينات لاصقة تُشبه الغراء الحيوي، ليحصلوا على خريطة تواصل عصبي هي الأقرب إلى دماغ جنين حقيقي. هذه الخطوة سمحت بمتابعة تطور الفصوص الدماغية وتوليد موجات كهربائية طبيعية، في بيئة يمكن التحكم فيها واختبار تأثير العقاقير المختلفة عليها.
أهمية العضيات في أبحاث الأمراض العصبية
يرتبط هذا الإنجاز مباشرة بالطموح العلمي في إيجاد وسائل جديدة لعلاج اضطرابات مثل التوحد، والفصام، وأمراض التنكس العصبي التي تطال كامل الدماغ وليس جزءاً منه فحسب. حتى الآن، كانت النماذج الحيوانية (خصوصاً الفئران) الخيار الأكثر شيوعاً في بداية اختبارات الأدوية الجديدة. المشكلة أن أدمغة الحيوانات لا تعكس بشكل كافٍ تعقيدات الجهاز العصبي البشري، ما يؤدي إلى فشل أكثر من ٩٠٪ من الأدوية في مراحل التجارب السريرية الأولى، وتزيد النسبة على ٩٦٪ في مجال الأمراض العصبية النفسية. هنا تبرز أهمية العضية الجديدة، إذ تمنح العلماء "نافذة حية” لمشاهدة تطور الأمراض العصبية لحظة بلحظة، وقياس مدى فعالية العلاج قبل اتخاذ قرارات باهظة التكاليف وخطيرة على الإنسان.
بالعودة إلى الحافز الأساسي لدى فريق البحث، يشرح الباحث الرئيسي أن القدرة على دراسة نمو الدماغ واختبار الأدوية داخل نموذج يحتوي على جميع المناطق العصبية يوفر دقة لم نكن نحلم بها سابقاً. مما يعني في المستقبل القريب إمكانية تصميم علاجات فردية، ومراقبة استجابة كل مريض بطريقة توفر الوقت والتكاليف وتجنّب المخاطرة بالحياة البشرية.
أمم الطريق نحو ذكاء عضوي اصطناعي؟
وهذه التطورات ليست مجرد خطوة تقنية للأغراض الطبية، فالمختبرات تستكشف أيضاً كيف يمكن للنماذج العضوية مثل تلك العضية الدماغية أن تعزز الذكاء الاصطناعي الحيوي، أو ربما تُمهد لتطوير واجهات دماغية – حاسوبية أكثر تطوراً من كل ما عرفناه. تخيلوا الوصول في يوم من الأيام إلى نماذج يمكنها التعلم، وربما حتى تفاعل مع الروبوتات، أو تحليل تشخيص أمراض نفسية شديدة التعقيد.
في النهاية، يظل الطريق طويلاً أمام انتشار مثل هذه العضيات في الأبحاث والتطبيقات الطبية اليومية، خاصة وأن كل عضية ما زالت صغيرة جداً لا تتجاوز عدة ملايين من الخلايا العصبية، بينما يحتوي دماغ الفرد البالغ على عشرات البلايين منها. ومع ذلك، فإن الجمع بين الابتكار في هندسة الأنسجة، وتقنيات الخلايا الجذعية، وتحليل الشبكات العصبية يبرهن مرة بعد أخرى أن الخيال العلمي قد يصبح واقعنا الجديد قريباً. قد يكون أكثر سلاسة في إيصال فكرة الإنجاز لو استخدمنا في بعض الفقرات كلمة "تجربة مخبرية متطورة" بدلاً من "عضية" في بعض المواضع، أو ضيقنا التركيز أحياناً بتوضيح الفرق بين النموذج العضوي والذكاء الاصطناعي العادي بشكل أوضح، أو أضفنا جملة ربط توضح كيف أن تطور هذه العضيات سينعكس تدريجياً على اكتشاف علاجات أكثر فعالية لأمراض العقل والنفس. في جميع الأحوال، يحمل هذا البحث بذور أمل حقيقية لمرضى الاضطرابات العصبية حول العالم، ويدفع الحدود التي كانت يومًا بعيدة المنال في دراسة أسرار الدماغ الإنساني.