الإنترنت الشمسي: خطوة نحو ثورة الاتصال الكوني بسرعة الضوء

4 د
نجحت "إيسا" في تحقيق اتصال ليزري مع مسبار يبعد 265 مليون كيلومتر.
يمثل هذا خطوة مهمة نحو إنشاء نظام اتصالات ضوئي للفضاء السحيق.
تتيح الاتصالات الضوئية نقل بيانات بسرعة تزيد 10 إلى 100 مرة عن الراديو.
تتطلب الاتصالات الليزرية دقة متناهية في تحديد مواقع الأجهزة الفضائية.
تهدف التجارب الحالية إلى تمهيد الطريق لإنترنت شمسي سريع وأوسع.
تخيل عالماً يمكننا فيه إرسال واستقبال بيانات ضخمة من الفضاء بسرعة تضاهي الإنترنت الأرضي! هذا الحلم بات أقرب إلى الواقع بعدما حقق علماء وكالة الفضاء الأوروبية "إيسا" مؤخراً إنجازاً غير مسبوق، إذ استخدموا الليزر للتواصل مع مسبار يقع على بُعد أكثر من 265 مليون كيلومتر عبر الفضاء العميق - وهي خطوة كبيرة نحو إنشاء أنظمة اتصال ضوئي تربط الأرض بمهمات المستقبل إلى القمر والكواكب البعيدة.
بدأت القصة في مرصد كريونيري بالقرب من أثينا، حيث وجه العلماء ليزرًا قويًا نحو مسبار "سايكي" التابع لوكالة ناسا، ليرد الأخير بإشارة ليزرية استقبلها مرصد هيلمس على مسافة 37 كيلومترًا فقط من نقطة الإرسال الأصلية. ولم يكن الأمر مجرد تجربة عابرة، بل نتيجة سنوات من العمل الهندسي والابتكار والتوحيد القياسي العالمي، كما أكدت ذلك رئيسة قسم نظم الاتصالات الأرضية في إيسا، مارييلا سبادا، واصفة النجاح بأنه "حجر زاوية لبناء شبكة الإنترنت الخاصة بالنظام الشمسي".
وهذه الخطوة تفتح الباب الآن أمام تحديات هندسية وتقنية غير مسبوقة. فتصميم تجربة كهذه يتطلب دقة متناهية في تحديد موقع المسبار باستخدام وسائل متطورة مثل تتبع موجات الراديو بين الكواكب، فضلاً عن الأخذ في الاعتبار تأثيرات الغلاف الجوي، ودرجة الحرارة، وحركة الأرض ذاتها. لم يترك العلماء شيئاً للصدفة؛ إذ أُغلقت بعض أجزاء المجال الجوي اليوناني مؤقتاً ضماناً للسلامة. وهنا يتجسد الترابط بين كل هذه العناصر لتمهيد الطريق نحو رفع كفاءة الاتصالات الفضائية في المستقبل.
وبعد هذا الإنجاز، أصبح واضحاً أن تحقيق "مصافحة" ليزرية ثنائية الاتجاه بين الأرض والمسبار ليس بالأمر الهيّن. لكنه لم يعد مستحيلاً. كان على العلماء ابتكار ليزر شديد القدرة يصيب هدفه بدقة هائلة على بُعد مئات الملايين من الكيلومترات، وبالمقابل، تطوير مستقبلٍ دقيق يستطيع رصد أقل إشارة مرتدة—حتى لو كانت في حدود فوتونات معدودة! وتأتي هذه التجربة ضمن سلسلة من أربع عمليات تبادل إشارات يعتزم العلماء تنفيذها هذا الصيف، ضمن إطار تجربة "الاتصالات الضوئية في الفضاء العميق" المدمجة مع مهمة سايكي.
وهذا الإنجاز الفريد يرتبط بشكل وثيق بطموحات الوكالات الفضائية في المستقبل. فمسبار سايكي يضم نظام إرسال واستقبال ليزري معتمراً غطاءً ذهبياً، بهدف اختبار تقنيات التواصل بعيدة المدى مع الأجهزة الفضائية المقبلة. ومن الجدير بالذكر أن هذه التقنية سبق وأن استخدمت لإرسال فيديو على بُعد نحو 31 مليون كيلومتر إلى الأرض لمشهد لقط يظهر قطاً يلاحق شعاع ليزر؛ في تظاهرة تكنولوجية غاية في الدقة والسرعة.
والانتقال من الراديو إلى الليزر في اتصالات الفضاء ليس مجرد تطور عابر، بل نقلة نوعية فعلية. فبينما يعتمد "سايكي" حالياً على موجات الراديو للتواصل مع الأرض، يقف الليزر اليوم على أعتاب تغيير المعادلة بالكامل. إذ يمكن للاتصالات الضوئية ضغط كم هائل من البيانات في موجات الضوء، فتنقل المعلومات بسرعة الضوء نفسها وبدقة أعلى بكثير من تقنيات الراديو، بما يعني معدلات إرسال بيانات تفوق الحالية بـ10 إلى 100 مرة، بحسب وكالة إيسا. وهذا يكمن في صميم الحاجة المتزايدة للتعامل مع فيضان البيانات القادمة من الاستكشافات الفضائية الحديثة.
وهذا التقدم الهندسي الباهر لا يخلو من متطلبات إضافية. فشعاع الليزر في الفضاء أضيق بكثير من موجات الراديو، لذا فإن توجيه الإشارة من المسبار يتطلب تنبؤاً دقيقاً بموقع الأرض عند وصول الشعاع، لضمان التقاط الرسالة. هذه الحسابات الدقيقة وسرعة المعالجة المرافقة لها ستصنع مستقبلاً ترتفع فيه معايير التواصل بين الأرض ومركباتنا الفضائية، وتجعل فكرة "إنترنت النظام الشمسي" أقرب مما نعتقد.
وفي ظل هذه الانطلاقة العالمية، يرى البعض أن الجمع بين تقنيتي الليزر والراديو سيخلق منظومة اتصال شاملة قادرة على تلبية التوسع المهول في البيانات العلمية القادمة من أعماق الكون. بعبارة أخرى، أصبح التواصل عالي السرعة عبر الفضاء لم يعد محصوراً بأفلام الخيال العلمي، بل واقع يتشكل خطوة بخطوة بين أيدينا اليوم.
يمكننا القول إن هذه التجربة الاستثنائية تمثل حلقة وصل مهمة بين أحلام البارحة ووقائع الغد، حيث تقترب مركباتنا الفضائية يوماً بعد يوم من امتلاك "إنترنت شمسي" فائقة السرعة. لعل اقتراح استخدام تعبير مثل "ثورة التواصل الكوني" قد يضفي قوة دلالية إضافية على النص، أو ربما كان من الأفضل إضافة جملة تربط بين الإنجاز الأخير وتوقعات المستقبل لإبراز البعد الزمني. في نهاية المطاف، نستشعر حتمية تطور لغة التواصل الفضائي، يوماً بعد يوم، بدفع من إنجازات كهذه تزرع بذور الأمل في امتداد المعرفة إلى أقاصي النظام الشمسي.