ذكاء اصطناعي

الذكاء الاصطناعي يكشف أسرار النص البابلي المفقود منذ 1000 عام!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

باحثون ينجحون بفك رموز نص بابلي قديم بمساعدة الذكاء الاصطناعي.

النص المكتشف يصف بابل كمدينة عظيمة، ويبرز مكانة المرأة والحياة اليومية.

الذكاء الاصطناعي يجمع شظايا الألواح الطينية لإنشاء نسخة جديدة للترنيمة.

التقنية الحديثة تساعد في إحياء كنوز أدبية قديمة تعيد فهم حضارات العالم القديم.

تخيّل أن تختفي ملحمة شعرية عظيمة تصف واحدة من أكبر مدن التاريخ لأكثر من ألف عام، ثم يعيد العلم الحديث ظهورها لتكشف لنا تفاصيل فريدة عن ماضٍ غني بالتاريخ والثقافة والحياة اليومية. هذا تحديدًا ما حدث مؤخراً مع نص بابلي قديم يسمّى "ترنيمة بابل"، حيث نجح باحثون في فك رموزه مستعينين بالذكاء الاصطناعي، وهو تطور علمي لافت أدهش المختصين ومحبي التاريخ على حد سواء.

تعود هذه القصة الرائعة إلى فترة تصل إلى حوالي 2000 سنة قبل الميلاد، في بلاد الرافدين (ميزوبوتاميا)، وتحديدًا في المدينة العالمية القديمة "بابل"، التي تقع أطلالها بالقرب من بغداد في العراق اليوم. كانت بابل حينها مركزًا حضاريًا بارزًا ألهم العديد من الأعمال الكتابية والتشريعية المهمة مثل ملحمة "إنوما إليش" التي تصف نشأة الكون وتصاعد مكانة الإله مردوخ، وكذلك "شريعة حمورابي" وهي واحدة من أقدم المجموعات القانونية المكتوبة تاريخيًا والتي جسّدت فعلًا مفهوم البراءة المتعارف عليه اليوم، وهو أنك "بريء إلى أن تثبت إدانتك".

وهذه الخلفية الغنية تاريخيًا تجعلك بلا شك تتساءل: ما الدافع وراء إعادة اكتشاف هذه الترنيمة تحديدا الآن؟ وما الذي تضيفه مثل هذه الاكتشافات لتاريخنا؟


"مشروع رقمي" يعيد الحياة للنصوص القديمة

الإجابة تكمن في مشروع بحثي طموح جداً يقوده مجموعة من العلماء من جامعة بغداد بالعراق وجامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ بألمانيا. عمل هؤلاء العلماء على مسح، رقمنة، وترجمة مجموعة كبيرة من الألواح الطينية القديمة المكتوبة بالخط المسماري، ضمن ما يُعرف بـ "مكتبة سيبار" الأثرية، التي عُثر عليها في معبد شمش بالمدينة القديمة سيبار في العراق.

ومع تناثر النصوص وتهشم العديد منها وتشتتها حول العالم على شكل قطع صغيرة يصعب التعرف عليها، جاء دور الذكاء الاصطناعي، الذي ساعد العلماء في الربط بين عشرات القطع المتناثرة واكتشاف أنها في الواقع تنتمي للعمل الشعري نفسه، وهي منفصلة منذ قرون طويلة.

وهذا الاستخدام التكنولوجي الذكي مكّن العلماء من إتمام عملية التجميع والترجمة بسرعة قياسية. فقد أشار الباحث "إنريكي خيمينيز"، وهو خبير متخصص في النصوص القديمة من جامعة لودفيغ ماكسيميليان، إلى أن "النظام الذي دعمته تقنيات الذكاء الاصطناعي ساعدنا في تحديد 30 نسخة مخطوطة إضافية من هذه الترنيمة المفقودة، في عملية كانت ستستغرق عادةً عقودًا من العمل البشري الشاق".

بفضل هذه الاكتشافات، تمكن الباحثون من إعادة بناء "ترنيمة بابل" كاملة، وهي نص شعري جميل يتألف من 250 بيتاً. ترى في هذا النص صورة بابل كمدينة عظيمة مازالت تحيا في مخيلة الشعب البابلي القديم.

أما أبرز جزئيات الترنيمة الجديدة، فهي وصف حي للمناظر الطبيعية التي أبدع الكاتب بابلي في تصويرها، خاصة نهر الفرات الذي كانت تقوم بابل على ضفافه. يقول النص:

"الفرات نهرها، من إنشاء السيد الحكيم نوديمود،
يروي الوادي، يغذي حقول القصب،
تفيض مياهه على البحيرات والبحر،
تتفتّح بفضله حقول الأعشاب والأزهار وتثمر سنابل الشعير،
يرعى في مروجه الخضراء قطعان المواشي،
ويزداد بفضله البشر ثراءً وتألقًا.."

وهذا النص يوضح قيمة الطبيعة والمياه في حياة البابليين، ويعتبر نادراً في الأدب البابلي الذي قليلًا ما يهتم بتصوير الطبيعة بشكل واضح ودقيق كهذا.

وتكشف الترنيمة أيضاً عن بعض الجوانب الاجتماعية المميزة للحضارة البابلية مثل مكانة المرأة، حيث أشارت النصوص المكتشفة حديثًا إلى الدور الاجتماعي والحضاري للنساء البابليات، وأن العديد منهن كُن يشغلن مناصب كاهنات، بالإضافة إلى وصف أهل بابل كأفراد يتعاملون باحترام وتقدير مع القادمين من خارج المدينة.

ذو صلة

وفي الحقيقة، فإن اكتشاف ترنيمة بهذه الشعبية والجاذبية المذهلة يطرح تساؤلات مهمة عما يمكن أن تخفيه المكتبات القديمة الأخرى من كنوز أدبية وثقافية وتاريخية. ويؤكد العلماء أن هذه العملية الرقمية الحديثة يمكن أن تكون نموذجاً للتعامل مع نصوص أثرية أخرى لا تزال قابعة تحت غبار التاريخ.

لا شك أن دمج الذكاء الاصطناعي مع الجهد البشري في هذا المشروع أعطانا درسًا رائعًا في قدرة التكنولوجيا الحديثة على استعادة الماضي الضائع. والآن، لا يسعنا سوى انتظار المزيد من النصوص القديمة التي قد تمنحنا نظرة إضافية إلى حضارات العالم القديم. بالمزيد من البحث والاكتشاف والتقنية الذكية، ستظل هذه الكنوز الثقافية والتاريخية حية، وتتحول النصوص القديمة من نقوش غامضة إلى نوافذ مفتوحة بشكل جميل على ماضي الإنسانية المشرق. وكم سيكون رائعًا بالفعل لو تم استخدام تراكيب أقوى في ترجمة هذه النصوص مستقبلاً، فمن المؤكد أنها ستزيد من جمال وقوة النص، وتعزز فهمنا لعراقة تلك الحضارات.

ذو صلة