ذكاء اصطناعي

الصدمة: لون واحد قد يغيّر قرارك بين الحياة والموت!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

بدأت اليابان تجربة تركيب أضواء زرقاء على أرصفة القطارات لتقليل حوادث الانتحار.

أشارت دراسة عام 2013 إلى أن الأضواء الزرقاء خفضت حالات الانتحار بنسبة تتجاوز 80%.

النقاشات العلمية لاحقًا أشارت إلى اختلاف النتائج وتفاوت الأثر حسب توقيت الإضاءة.

الأضواء الزرقاء أثارت اهتمامًا عالميًا، لكن الخبراء ينبهون إلى عدم الاعتماد عليها فقط.

تُوصَى اليابان بتبني تدابير شاملة تشمل خدمات الدعم النفسي والبنية التحتية الوقائية.

تخيل نفسك تنتظر قطارك القادم في إحدى محطات اليابان ليلاً، فتلاحظ ضوءًا أزرق هادئًا يغمر المكان. قد يبدو الأمر مجرد لمسة جمالية، لكن خلفه حكاية طموحة: هل يمكن للون معين من الضوء أن يحد من حوادث الانتحار على سكك القطارات؟ هذه الفكرة التي بدأت كتجربة محلية جذبت مع الوقت اهتمام المجتمع العلمي ووسائل الإعلام وحتى شركات السكك الحديدية حول العالم.

قبل عدة أعوام بدأت شركات القطارات اليابانية بتركيب مصابيح زرقاء أعلى أرصفة المحطات، في محاولة لدفع الناس بعيدًا عن التفكير في الانتحار في تلك المواقع. هذا السلوك يعتمد على ما يُعرف باسم “تقنية الحث” أو النَجْد (Nudge Technique)، وهي وسائل بسيطة تُستخدم لتأثيرات نفسية قد تُحدث فروقًا ملموسة في سلوك البشر. هذه الفكرة قوبلت بموجة من التفاؤل عقب نشر دراسة علمية عام 2013 قالت إن معدلات الانتحار تراجعت في محطات الأضواء الزرقاء بنسبة مذهلة فاقت 80%.


ما بين العلم والواقع: نقاش الأرقام

النقاشات العلمية لم تتأخر؛ فقد بدأت الدراسات اللاحقة بغربلة النتائج المبشرة بعين ناقدة، خاصة حين وجدت اختلافات جوهرية مرتبطة بتوقيت حدوث حالات الانتحار، وبأن أثر الإضاءة الزرقاء ظهر أكثر ليلًا عندما تبرز المصابيح، مقارنة بساعات النهار حيث قد تكون مطفأة أو تغمرها إضاءة الشمس. اللافت أكثر أن فاصل الثقة الإحصائي – أي مدى جزم العلماء بالارتباط – كان واسعًا جدًا: الانخفاض اقترب من 84% لكنه ربما يكون فعليًا أقل بكثير، حتى 14% فقط. هذا يعني أن المعجزة ليست مؤكدة تمامًا، وأن الحذر ضروري عند تفسير النتائج.

ومن هنا ننتقل للسؤال: هل الحل السحري لمشكلة معقدة مثل الانتحار يمكن أن يعتمد فقط على لون الضوء؟ معظم الباحثين، وأولهم ميشيكو أويدا، صاحبة الدراسة الشهيرة، يحذرون من التسرع. فالعلم لم يؤكد بعد أن الضوء الأزرق له ذاك التأثير الساحر الذي نُسِب إليه في التقارير الإعلامية.

وفي هذا السياق، نجد أن الحلول الهندسية الأخرى – مثل الحواجز الواقية والأبواب الزجاجية على أطراف الأرصفة – أكثر تكلفة بكثير، لكنها ربما تكون فعالة أضعاف الأضواء، بحسب رأي الخبراء ومنهم ماساو إيتشيكاوا من جامعة تسوكوبا اليابانية.


الأضواء الزرقاء بين الأثر النفسي والحياة اليومية

وهنا يجب أن نتذكر أن هناك أبحاثًا تدعم الفكرة بأن الضوء الأزرق يضفي ملمسًا هادئًا على الأجواء، ويساعد الأفراد على الاسترخاء بعد فترات توتر نفسي شديد. بعضها أشار إلى تجدد الشعور بالطمأنينة في بيئة يغمرها هذا اللون. لكن تبقى هناك علامات استفهام حول ما إذا كان هذا الأثر اللحظي يمكن ترجمته بالفعل لتقليل السلوكيات الانتحارية، خاصة وأن سلوك الاندفاع أو اتخاذ قرار مفاجئ غالبًا ما يرتبط بعوامل أكثر تعقيدًا، ذات أبعاد نفسية واجتماعية وصحية متشابكة.

ويأتي في هذا السياق تساؤل آخر: هل التحسن الملاحظ جاء حقًا بسبب اللون الأزرق تحديدًا أم أن وجود أي إضاءة جديدة ولافتة يجعل الناس أكثر وعيًا بذاتهم وتصرفاتهم؟ بعض العلماء يتوقعون أن عادة البشر قد تعود للظهور بعد فترة حين يتأقلم العابرون مع هذه المصابيح وتفقد قدرتها على لفت الانتباه.


تأثير التجربة اليابانية وسرّ انتشارها عالميًا

الاهتمام العالمي بالتجربة اليابانية دفع شركات القطارات في بلدان مثل سويسرا وبلجيكا وبريطانيا إلى تبني مبادرات مماثلة على أمل تحقيق نفس النجاح. فعالية الضوء الأزرق صارت موضع تساؤل بين الساسة والعاملين في الميدان النفسي والصحي، وامتلأت الصحف بالقصص والتقارير عن هذا الحل المبتكر. مع ذلك، ظلت الأصوات العاقلة تُشدد على أن القضية أكثر تعقيدًا ولا توجد حلول سهلة. الخبراء اليابانيون أنفسهم يوصون بتبني تدابير متعددة وليس الاعتماد على لون الضوء فقط.

ومن هنا نرى كيف ترتبط محاولات مكافحة الانتحار في اليابان بخطط أوسع تشمل التغيير الاجتماعي، والاستثمار في البنية التحتية الوقائية، وتبنّي طرق أكثر شمولًا لرعاية الصحة النفسية.

الخلاصة أن البحث عن وسائل لردع الانتحار حاجة إنسانية ملحة في دول تضم نسبًا مرتفعة من تلك المآسي مثل اليابان، إلا أن الصورة لا تزال ضبابية عندما يتعلق الأمر بتأثير الأضواء الزرقاء. العلم يميل اليوم لتعزيز فكرة أن التأثير قد يكون محدودا في أفضل الظروف، وبأن العلاجات الحقيقية غالبًا ما تتطلب جهودًا متكاملة ومعقدة، من بينها الأبواب الواقية وخدمات الدعم النفسي ورصد المؤشرات الاجتماعية.

ذو صلة

وأنت تتأمل في ضوء أزرق ليلي بمحطة قطارات ما، قد تتذكر أن الطريق إلى حلول فعَالة للصحة النفسية دائمًا طويل، والمفتاح هو استمرار البحث والابتكار بجانب التعاطف والفهم الإنساني العميق.

إذا كنت أنت أو أحد معارفك يواجهون صعوبات في الصحة النفسية، يُنصح دومًا بالتواصل مع مراكز الدعم المتخصصة للحديث مع خبراء يمكنهم المساعدة.

ذو صلة