ذكاء اصطناعي

العلماء يكتشفون أن إشعاع أبراج الاتصالات يهدد صحة نحل العسل في غضون ساعة واحدة

محمد كمال
محمد كمال

4 د

كشفت دراسة بولندية تأثير إشعاع أبراج الاتصالات على صحة نحل العسل.

تعرض النحل لموجات الراديو لم يغير فقط الأنزيمات بل حفز كذلك الإجهاد الخلوي والجيني.

أظهرت الدراسات أن التعرض للأشعاع لفترة طويلة يسبب اختلالات في توازن البروتينات.

تجربة في كرواتيا أظهرت آثارًا بعيدة المدى على خلايا اليرقات ومستعمرات النحل.

هل فكرت يومًا أن الإشارات غير المرئية التي تحمل مكالماتك ورسائلك قد يكون لها تأثير خفي على أصغر الكائنات التي يعتمد عليها غذاؤنا اليومي؟ في عالم تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا، سلطت أبحاث بولندية حديثة الضوء على وجه غير متوقع من وجوه التقدم: تأثير إشعاع أبراج الاتصالات على صحة نحل العسل، هذا الكائن الدؤوب الذي يحافظ على توازن النظم البيئية ويؤمّن لنا ثلث غذائنا تقريبًا.

في قلب البحث، سعى العلماء لفهم مدى سرعة تأثر نحل العسل بمجرد تعرضه لموجات الراديو الكهرومغناطيسية، مثل تلك الصادرة عن أبراج الهواتف المحمولة. نتائج التجربة كشفت أن التعرض لمدة ساعة واحدة فقط يمكنه إحداث تغيرات خطيرة في أنزيمات مهمة بوظائف النحل، تؤثر على عمليات التمثيل الغذائي للبروتينات، وتحفّز ظهور علامات الإجهاد الخلوي والجيني. سنغوص معًا في تفاصيل الدراسات، لنكتشف كيف يمكن لموجات لا تُرى ولا تُسمع أن تهز أجنحة النحل وتُهدد مستقبل غذائنا.

يبدأ الأمر من حقل هادئ في مدينة فروتسواف البولندية، حيث يعكف العلماء على اختبار تأثير إشعاع التردد اللاسلكي (RF EMF) ذي الطول الموجي 900 ميغاهرتز – وهو نفسه الذي تستخدمه أغلب أبراج شبكات الاتصالات. في التجربة، تم وضع مجموعات من نحلات العسل في أقفاص صغيرة وتعرض كل منها لفترات متفاوتة ولمستويات مختلفة من الإشعاع لمحاكاة البيئة المحيطة بأبراج الاتصالات. بعد ساعة فقط من التعرض، لاحظ الباحثون انخفاضًا ملحوظًا في أنزيمي ALT وAST المسؤولين عن تنظيم عمليات البروتين داخل الخليا، بالإضافة إلى انخفاض في أنزيم رئيسي آخر يدعى GGTP، خاصة عند التعرض لمستوى إشعاع مرتفع ولفترة طويلة. وهذه الأنزيمات ليست مجرد مؤشرات عابرة؛ فهي تلعب دورًا جوهريًا في صحة النحل ونموه وقدرته على القيام بوظائفه الحياتية، وأي اختلال فيها يمكن أن يكون بداية لسلسلة من التدهورات الخفية.

ومع اتضاح الصورة الكيميائية تحت المجهر، قرر العلماء تعميق البحث وصولًا إلى المستوى الجيني. أظهرت النتائج أن النحل استجاب سريعًا عن طريق إنتاج كميات زائدة من بروتينات الصدمة الحرارية مثل Hsp70 وHsp90، وهي بروتينات تعرف بأنها خطوط الدفاع الأولى للجسم ضد الضغوط الخلوية وتعمل على إصلاح البروتينات التالفة. المدهش أن هناك مؤشرات توتر أخرى مثل Hsp10 وvitellogenin لم تتغير بشكل ملحوظ، مما يوحي بأن استجابة النحل كانت نوعية لإجهاد محدد شبيه بالتعرض للأشعة فوق البنفسجية، وليس مجرد ارتفاع عابر في درجة الحرارة أو إجهاد عام. هذا الخلل يُعرف علميًا باختلال التوازن البروتيني أو فقدان "توازن البروتيوم"، وإذا لم تتمكن الخلية من استعادة هذا الاتزان، يصبح النحل أقل قدرة على مواجهة المهددات الأخرى مثل المبيدات أو الأمراض أو حتى التغيرات المناخية.

ومن المختبر البولندي إلى المحيط الحيوي الطبيعي، انتقلت التجربة إلى كرواتيا بهدف مراقبة آثار التعرض المستمر للإشعاع على النحل لفترة تمتد لسنة كاملة، وهي فترة كافية لرصد تأثيرات بعيدة المدى على مستعمرات النحل الكاملة. كشفت الدراسة الكرواتية أن خلايا اليرقات، والتي تعتبر المرحلة الأكثر هشاشة في حياة النحل، تعرضت لأكبر ضرر تمثل في ارتفاع مؤشرات الإجهاد التأكسدي (مثل TBARS) التي تدل على تلف أغشية الخلايا. من جانب آخر، تذبذبت فعالية الأنزيمات المضادة للأكسدة لدى النحل، مثل الكاتالاز والسوبر أوكسيد ديسميوتاز والجلوتاثيون-إس-ترانسفيراز، بحسب مرحلة عمر النحلة وقوة الإشعاع. لوحظ أيضًا سلوك غريب مثل ازدياد العدوانية واستبدال الملكة بهدوء، وهي تغيرات قد تمر دون انتباه المراقب العادي لكنها تحمل في طيّاتها مخاطر على استقرار وانسجام الخلية داخل المستعمرة.

تُضاف هذه النتائج إلى قائمة طويلة من التهديدات التي يواجهها النحل بالفعل، كالمبيدات الزراعية، وتدهور الموائل الطبيعية، وتغير المناخ، وطفيليات الفاروا. ما تميّزه هذه الأبحاث أن إشعاع الاتصالات أصبح عاملاً خفيًا جديدًا يجب أمامه التوقف، خصوصًا في ظل اعتماد معايير السلامة فقط على تأثيرها البشري دون اعتبار لحساسية الحشرات الصغيرة والبرية لها. فنظام جسم النحلة يختلف جذريًا عن الإنسان؛ طبيعته الدقيقة وحجم الخلايا وتركيبة الأعضاء تجعله أكثر عرضة للخطر حتى في مستويات إشعاع تصنف "آمنة" للبشر.

وهذا يقودنا إلى سؤال محوري: إذا كانت الأجنحة الصغيرة تشعر بأثر هذه الإشارات الطافية في الهواء، ماذا عن بقية البيئة الزراعية وأشجار الفاكهة ومحاصيل القهوة التي نعتمد عليها؟ إن النحل لا ينقل الرحيق فقط، بل هو عصب التلقيح الزراعي الذي يلعب دور البطولة في 75% من محاصيلنا الغذائية. عند اختلال صحة النحل، تتأثر سلسلة الغذاء بالكامل، وترتفع أسعار المواد الغذائية، وتضطرب دورة الزراعة والنظام البيئي، الأمر الذي يجعل هذه القضية مسألة تخص كل بيت وكل أسرة.

ذو صلة

اعتمادنا المتزايد على تقنيات الاتصالات اللاسلكية أصبح واقعًا لا يمكن الفرار منه. لكن نتائج هذه الدراسات تدق ناقوس الخطر، وتدعونا للتفكير الجاد في كيفية وضع ضوابط تضمن استدامة تقنيتنا وصحة بيئتنا في آن واحد. الحفاظ على النحل هو حماية للطبيعة والغذاء والمجتمع. كل إشارة هاتف تمر في الهواء يمكنها إحداث تغيرات ضئيلة لا نراها في جناح نحل اليوم، لكنها قد تتراكم لتُحدث تحوّلات كبيرة في مستقبل مواردنا الغذائية.

في النهاية، تذكّر وأنت تستمع إلى طنين النحل في بستان أو حديقة أن هناك الكثير من الخيوط الخفية تربطنا بهذا المخلوق الصغير، وأن رفرفة جناحيه تحمل أكثر من مجرد رحيق أو غبار لقاح. إنها تحمل مستقبل الحصاد وما سيصل إلى مائدتنا، وربما تحمل أيضًا رسالة بأن التقدم لا يجب أن يكون على حساب أساس الحياة ذاته.

ذو صلة