المومياوات لم تحتفظ بأسرارها فقط… بل برائحتها أيضًا!

3 د
اكتشف الباحثون أن المومياوات المصرية ما زالت تحتفظ بروائح حلوة ودافئة.
أثبتت الرائحة أهمية طقوس التحنيط وعلاقتها بهوية صاحب المومياء.
يستخدم العلماء تقنيات حديثة ومستشعرين للرائحة بتحليل غازات المومياوات.
جودة المواد في التحنيط تشير لمكانة المتوفى الاجتماعية والثقافية.
يطور المتاحف عطر "مومياء" ليعطي الزوار تجربة فريدة من نوعها.
هل كنت تتخيل يوماً أن رائحة المومياوات المصرية قد تكون عطرة وجذابة؟ الدراسات الأخيرة أثبتت أن الجثث المحنطة في مصر القديمة لا تحتفظ فقط بأسرار الحضارة، بل تحتفظ أيضاً بروائح طيبة تدوم لقرون، وتروي قصصاً جديدة عن عادات التحنيط ومكانة أصحابها.
في تطور علمي جديد، توصل فريق دولي من الباحثين إلى أن بعض المومياوات المصرية ما زالت تفوح منها روائح حلوة ودافئة وأحيانًا حارة، حتى بعد مضي أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام على تحنيطها. هذه النتائج المدهشة نُشرت في مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية، حيث استعان العلماء بتحليل دقيق للعينات الغازية المنبعثة من تسع مومياوات محفوظة بمتحف القاهرة، مستعينين بمحطات تحليل متقدمة مثل كروماتوغرافيا الغاز ومطياف الكتلة. لم يكتفِ الباحثون بالتقنيات الحديثة، بل استعانوا أيضاً بمجموعة من “الشُمّامين المدربين” لوصف الروائح بأنوفهم، فجاءت أوصافهم أقرب إلى ما نسمعه في محلات العطور: حلاوة، خشبية، لمسات توابل قديمة، ونفحات عطرية غامضة.
هذه النتائج المثيرة سلطت الضوء مجدداً على العلاقة الوثيقة بين الروائح وطقوس التحنيط في مصر القديمة، مما جعل العلماء يتسائلون: هل للرائحة علاقة بمكانة المتوفى؟ الباحث عبد الرازق النجار بقيادة جهد علمي مشترك بين مصر وأوروبا، كشف أن اختيار كل مومياء في الدراسة كان بعناية ليعكس تنوع الخلفيات الاجتماعية والممارسات الطقسية. هذا التوجه فتح الباب لاستكشاف التراث الثقافي من زاوية جديدة، حيث أصبح ممكنًا دراسة التاريخ دون المساس بالآثار، وبتعاون وثيق مع خبراء الترميم المصريين الذين يملكون دراية فريدة بروائح القاعات الأثرية.
وبالربط بين النتائج السابقة وهذا الاكتشاف، بدا أن جودة المواد المستخدمة في التحنيط وثراء الروائح المرتبطة بها يكشفان الكثير عن هوية صاحب المومياء. المومياوات الملكية أو الخاصة بالنبلاء كانت غالباً تحنط بأجود أنواع الأملاح والأعشاب الغالية والصمغ النادر، فتغدو روائحها معقدة وأغنى بكثير من الفقراء الذين استُخدمت معهم مواد أقل جودة، أو مُعاد تدويرها من مومياوات أخرى. المثال الأبرز في الدراسة كانت مومياء بداخل تابوت يتميز بقناع مذهّب؛ إذ انبثقت منها أعمق وأقوى الروائح رغم قدمها الكبير مقارنة بالعينات الأخرى.
ومن هنا، يتضح مدى ارتباط تقدم طقوس التحنيط وتطوره بالعصر الذي عاش فيه المومياء. ففي المملكة الحديثة بمصر (بداية من العام 1500 قبل الميلاد تقريباً)، تطور التحنيط إلى طقس متكامل مع استخدام خلطات معقدة من الزيوت والراتنجات ومواد التجفيف، وهي على الأغلب المسؤولة عن الحلاوة والأصالة في الرائحة اليوم. ترجع بدايات التحنيط البدائي إلى حوالي خمسة آلاف عام قبل الميلاد خاصة في الصحاري الحارّة. لكن تطور الحرفة منح المومياوات قدرة على الاحتفاظ بعبق مميز لآلاف السنين.
دعنا ننتقل الآن إلى جانب آخر قلما يُناقش، وهو تأثير الرائحة في الشعور والذاكرة. الرائحة لا تربطنا بالماضي فقط كمعلومة أكاديمية، بل تثير لدينا مشاعر حنين وانبهار لأن مناطق الدماغ مثل الأميجدالا والهيبوكامبوس مسؤولة عن استعادة الذكريات المرتبطة بالروائح. لهذا السبب كان إشراك المرممين وعلماء المتحف المصري في الدراسة ضروريًا، فهم يعايشون البيئة باستمرار ويتمكنون من التفرقة بين عبير التحنيط ومواد الحفظ الحديثة داخل المتحف.
ولأننا نعيش في زمن يسعى فيه المتاحف للابتكار، بات الحديث عن صناعة "عطر المومياء" يبدو أقل غرابة مما مضى. باحثة في الكيمياء الأثرية بمعهد ماكس بلانك علقت بأن المتاحف أهملت لفترة طويلة عنصر الحواس، مع أن شم التاريخ قد يمنح الزوار تجربة لا تُنسى. ربما يأتي يوم يستطيع فيه الزائر اختبار عبير مصر القديمة عن قرب أو حتى شراء نسخة “عطرية” كتذكار من التاريخ المصري، فيتذوق قطعة من زمن الفراعنة: خشبي، حلو، دافئ، وفريد.
خلاصة القول أن هذه الاكتشافات العطرية لا تغيّر فقط أساليب دراسة التاريخ، بل توطد صلتنا الإنسانية بالحضارة المصرية، وتفتح قنوات جديدة تجمع بين العلم، الثقافة، والإحساس في رحلة استكشاف أسرار الزمن الممتد من الألفية الثالثة قبل الميلاد حتى اليوم.









