باحثون يبتكرون روبوتات مرنة تتحول بين السيولة والصلابة كالكائنات الحية

4 د
ابتكر الباحثون في جامعة كاليفورنيا مادة روبوتية تجمع بين الصلابة والسيولة.
تعتمد المادة على مغناطيسات دقيقة ومحركات لضبط التماسك والتشكيل حسب الاحتياج.
يمكن لتلك الروبوتات الذكية التئام نفسها وتغيير خصائصها للاستجابة للمواقف غير المتوقعة.
تتميز التطبيقات المتنوعة، من البناء الذاتي إلى أدوات طبية تتكيف مع الجسم.
قد تغير هذه الابتكارات مستقبل التصنيع والاستخدام اليومي للأدوات والآلات.
تخيل أن الآلات لم تعد كتلاً جامدة ذات شكل ثابت، بل أصبحت كائنات ذكية قادرة على تغيير شكلها والانسياب بسلاسة ثم العودة للصلابة عند الحاجة، كأنها تملك حياة خاصة بها. هذا ليس مشهداً من أفلام الخيال العلمي، بل إنجاز علمي واقعي حققه فريق من الباحثين بجامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، الذين ابتكروا مادة روبوتية متطورة يمكنها أن تتشكل وتلتئم وتتغير صلابتها بنفس المرونة التي نراها في الأجسام الحيوية.
ذروة الإبداع في الروبوتات: تكنولوجيا مستوحاة من الحياة
البداية جاءت عندما تساءل العلماء: ما الذي يجعل الأنسجة الحية، مثل تلك الموجودة في أجنة الكائنات، قادرة على إعادة التشكيل والشفاء وتغيير قوتها؟ الإجابة وجدها الفريق في الطبيعة نفسها، حيث لاحظوا كيف تتحول الأنسجة الجنينية في الحياة الواقعية من حالات صلبة إلى شبه سائلة أثناء النمو، ما يُمكنها من تشكيل أعضاء بأشكال مختلفة وقوى متنوعة. واستلهاماً من تلك العملية الطبيعية الفريدة، صمم الباحثون وحدات روبوتية صغيرة تشبه قرص الهوكي، كل وحدة مزودة بمحركات مغناطيسات وحساسات ضوئية دقيقة. هذه الوحدات قادرة على الاندماج معاً لتشكيل مادة جماعية بإمكانها أن تتماسك بقوة كالفولاذ أو تذوب مؤقتاً لتنساب كالسوائل، حسب الحاجة.
ما يميز هذه المادة الروبوتية ليس فقط مرونتها العالية، بل قدرتها الفريدة على التئام نفسها وتغيير خصائصها الميكانيكية في لحظات. فلو أصيبت وظيفة معينة بخلل، يمكن للوحدات أن تعيد ترتيب نفسها سريعاً والتعويض تلقائياً، لتمنحنا جيلاً جديداً من “المواد الذكية” القادرة على الاستجابة للمواقف غير المتوقعة. وهذا يتداخل مباشرة مع رؤية الباحثين نحو إنشاء جيل جديد من الروبوتات الحيوية التي تجمع بين مزايا الصلابة والسائل في آن واحد، متخطية بذلك العقبات السابقة التي كانت تحد من حرية الروبوتات التقليدية.
كيف تعمل التقنية الجديدة؟
ومن هنا، يبرز تساؤل مهم: كيف نجح العلماء تقنياً في ترجمة هذه الفكرة الجريئة إلى مادة روبوتية حقيقية؟ استخدم الفريق ثلاثة عناصر أساسية مستوحاة من الخلايا الحية: أولاً، الاعتماد على مغناطيسات دقيقة تشبه روابط الخلايا الطبيعية، فتمنح المادة قوة تماسك وقابلية للفصل الفوري. ثانياً، تحاكي المحركات الصغيرة داخل الوحدات طريقة دفع الخلايا لبعضها البعض، مما يسمح للمادة بأن تذوب وتتشكل من جديد عند تلقي الأوامر المناسبة. ثالثاً، تم تزويد كل وحدة مستديرة بحساس ضوئي يراقب اتجاه الضوء المستقطب في المحيط، فيحدد اتجاه الحركة ومتى تبدأ عملية “تسييل” المادة أو إعادة صلابتها، وكأنها تملك بوصلة داخلية. بهذه الطريقة، عندما يتم تسليط إشارة ضوئية معينة على الروبوتات، تتغير قوى الجذب والتلاصق بينها فتتحول مناطق من الكتلة إلى صلبة لحمل الأوزان، بينما تصبح مناطق أخرى مرنة لإعادة التشكل أو إصلاح أي خلل. هذا النظام الذكي يحاكي بشكل دقيق كيف تتعامل الأنسجة الحية مع الظروف المتغيرة باستمرار.
آفاق جديدة: من آلات قادرة على الشفاء الذاتي إلى أفكار خارج حدود الواقع
بعد فهم المبادئ العلمية الكامنة وراء هذه التقنية، يتبادر إلى الذهن تساؤل آخر حول التطبيقات المتوقعة لهذا النوع الجديد من الروبوتات الذكية. الباحثون يرون أن له مجالات لا حدود لها: من معدات البناء القادرة على إصلاح نفسها تلقائياً، إلى أدوات طبية تستطيع التكيف مع شكل الجسم أو حتى دخول العمليات الجراحية بأمان بالغ. وهناك أيضاً إمكانية استخدام هذه المواد في أدوات يومية متغيرة الشكل، مثل المفكات أو السكاكين التي تتبدل حسب المهمة المطلوبة، وصولاً إلى أجهزة صناعية ضخمة تغير تصاميمها حسب الحاجة. كما أن العلماء يتوقعون أن دمج تقنيات التعلم الآلي الذكي مع هذه الروبوتات سيجعلها أكثر قدرة على اتخاذ القرارات الذاتية، ما يفتح الباب أمام تحالف جديد بين الميكاترونيات والذكاء الاصطناعي.
ولا يقف الحد عند الهندسة أو التطبيقات الصناعية، بل يمتد إلى دراسة سلوك المجتمعات الحية نفسها، وذلك عبر محاكاة التفاعلات الجماعية بين الروبوتات لمزيد من فهم الفيزياء الحية والتحكم في المواد النشطة. كل هذه السبل تشير إلى أن ما بدأه باحثو جامعة كاليفورنيا قد يغير جذرياً مفهومنا عن المادة وكيفية تشكل الأشياء حولنا.
في الختام، يبدو أن العالم على أعتاب عصر تسود فيه المواد الذكية والروبوتات الحيوية القادرة على إعادة تشكيل نفسها، وهو ما سيغير الطريقة التي نصنع ونستخدم بها الأدوات والآلات من حولنا. إذا أردنا مزيداً من الدقة، ربما يمكننا استبدال مصطلحات “المواد الذكية” أحياناً بـ”المواد المتكيفة”، وتشديد الترابط بين التطبيقات اليومية والتقنية المتقدمة بإضافة جمل توضح كيف يمكن لهذه الابتكارات أن تنتقل بسلاسة من المختبرات العلمية إلى حياتنا العملية. بهذه اللمسات، نصبح أمام رؤية واقعية وملهمة لعالم تصنع فيه الروبوتات الذكية مستقبل الأشياء.