خلاياك ليست غبية… إنها تميّز الموجات الصوتية وتتفاعل معها!

4 د
كشف باحثون من جامعة كيوتو أن الخلايا يمكنها اكتشاف الموجات الصوتية والتفاعل معها.
تأثر 145 جينًا في الخلايا بعد تعرضها لموجات صوتية على مدار يوم كامل.
الاهتزاز الصوتي يؤثر على نضج الخلايا الدهنية وقد يساعد في علاج السمنة.
النشاط البدني يولد ضغوطًا ميكانيكية تؤثر على العظام والأنسجة.
البحوث تشير إلى إمكانية استخدام الموجات الصوتية في العلاج الطبي.
تخيل للحظة أنك لست وحدك من يسمع زقزقة العصافير أو ضجيج المدينة، بل خلايا جسدك أيضًا تملك “أذنين” من نوع خاص تلتقط بهما نغمات العالم من حولك. في مفاجأة علمية مذهلة، كشف باحثون من جامعة كيوتو أن الخلايا الحية قادرة بالفعل على اكتشاف الموجات الصوتية والتجاوب معها عبر تغييرات جينية ملموسة. هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام فهم جديد لعلاقة الصوت بجسد الإنسان، وربما يمنح الأطباء طرائق علاجية مبتكرة، لطالما كانت تبدو مستحيلة.
معظمنا يربط الصوت بالأذن والسمع، لكن البحث الجديد يدعونا إلى النظر للموجة الصوتية كقوة ميكانيكية تنتقل بين جزيئات الهواء أو السوائل أو حتى أنسجة الجسم. وكأن جسدنا بأكمله “يستمع” بالفعل، على طريقته! ومن هنا، انطلقت دراسة كيوتو عبر تعرض خلايا فأر (يُطلق عليها بالأحياء "مايوبلاستس" أو السلائف العضلية) لموجات صوتية ذات ترددات متنوعة: واحدة منخفضة عند 440 هرتز - قد تذكرك بنغمة آلة موسيقية، وأخرى مرتفعة عند 14 ألف هرتز، بالإضافة إلى ما يسمّى "الضجيج الأبيض" الذي يشبه هدير الخلفية المنتظم. كل هذه تجارب جرت داخل المختبر باستخدام جهاز خاص يرسل اهتزازات صوتية بدقة مماثلة لما تعيشه خلايا الجسم عادةً.
وهنا تبرز المفاجأة الأكبر: بعد ساعتين فقط من التعرض للصوت، اكتشف العلماء أن نشاط 42 جينًا قد تغير داخل الخلية مقارنة بالحالات المعتادة، قفز هذا الرقم إلى 145 جينًا بعد مرور يوم كامل! لم تكن استجابة الجينات اعتباطية، بل ارتبطت بوظائف حيوية كاستشعار التوتر، حركة الخلايا، وتكون الخلايا الدهنية. هذه النتائج تقرع جرسًا جديدًا في فهم التفاعل الخلوي، حيث كانت الفيزياء والكيمياء فقط تلعبان الدور الرئيسي، لتدخل الميكانيكا الصوتية الآن بقوة في الساحة.
ما يجعل هذا الأمر أكثر إثارة هو أن أنماط الاستجابة اختلفت بين الجينات. بعضها أظهر قفزة سريعة ثم خفَت سريعًا (“استجابة شوكية”)، وأخرى واصلت النشاط بقوة لفترات طويلة (“استجابة محفزة”). تمامًا كما يحدث عند تعرض الجسم لهرمون أو محفز نمو: هناك ردود أفعال مؤقتة، وأخرى طويلة الأمد تساهم في الشفاء أو التكيف أو حتى نمو الأنسجة. ولفهم هذه النقطة على نحو أفضل، فكّر في الجين المعروف باسم "Ptgs2" (أو Cox-2)، أحد مفاتيح تنظيم الالتهاب وتجديد الخلايا، الذي تنشط بفعل الصوت وشارك في إرسال إشارات التغير للخلايا الأخرى. تبيّن من التجربة أن هذا الجين يعتمد في استجابته على بروتين خاص يدعى "كيناز الالتصاق البؤري" أو FAK المسؤول عن استشعار التغيرات الميكانيكية في الخلايا.
بعد هذه النتائج اللافتة، ننتقل لمحور بالغ الأهمية وهو: كيف تؤثر الموجات الصوتية على مصير الخلية! اكتشف الباحثون أن الاهتزاز الصوتي استطاع تعطيل عملية نضج الخلايا الدهنية (وهي الخلايا المسؤولة عن تخزين الشحوم). إذا صحّت هذه النتائج مستقبلًا لدى الإنسان، قد تساهم الموجات الصوتية في الحد من السمنة أو التحكّم في تكوين الدهون بطريقة لطيفة لا تتطلب جراحة أو أدوية. هذا الربط بين تأثير الصوت وكل من التجدد الخلوي ومجال طب السمنة يرسم مستقبلاً واعدًا للعلاج غير الجراحي باستخدام "أدوية صوتية" إن جاز التعبير.
ولا يتوقف الأمر هنا؛ فالموجات الصوتية في جسمنا ليست ناتجة فقط عن الضوضاء الخارجية، بل حتى الحركة والتمارين تولّد ضغوطًا ميكانيكية عبر العظام والعضلات والأنسجة اللينة قد تعادل عشرات الآلاف من الضغط السمعي العادي. هذه القوى قد تفسر كيف يؤثر النشاط البدني على بنية العظام أو توزيع الدهون أو حتى شفاء الإصابات. ومن اللافت أن التجربة وجدت أن مئات الجينات الإضافية تتنشط أو تثبط في استجابة للصوت، كثير منها يتعلق بانتقال الخلايا، الاستماتة (الموت المبرمج للخلية)، ونمو الأوعية الدموية.
وفي هذا السياق، يطرح علينا البحث سؤالاً وجوديًا ممتعًا: إذا كانت خلايانا “تستمع” دائما، فهل لهذا علاقة بما نسمعه ونعيشه يومياً—من موسيقى، همس الطبيعة أو حتى الضجيج البيئي؟ وإلى أي مدى يؤثر ذلك لاحقاً في صحتنا أو عملية الشيخوخة أو حتى حالات مثل التوتر والاكتئاب؟
تطلع باحثو كيوتو لآفاق المستقبل بتفاؤل، مؤكدين أن الموجة الصوتية أداة غير مادية، غير جراحية وآمنة تستطيع التوغل في الجسم دون ألم أو أثار جانبية. إذا استمرّت التجارب الإكلينيكية وأكدت فعاليتها، فقد نرى في المستقبل علاجات صوتية للأمراض، أو تحسين الجروح، أو دعم نمو الأنسجة عبر ترددات خاصة، لتتنوع تقنيات الطب بوسائل أكثر لطفًا وتوافقًا مع الجسم من العقارات أو العمليات الجراحية التقليدية.
في الختام، يبدو أن الحكاية القديمة عن تأثير الموسيقى أو الأصوات المحيطة ليست مجرد خيال أو ادعاء، بل قد يحيا كل جزء من أجسامنا على إيقاع نفسه الخاص. بفضل هذا البحث الرائد، أصبحنا ندرك أن لغة الحياة أحيانًا موسيقية بحق، وأن خلايانا جميعها قد تكون "آذانًا صاغية" لصوت الوجود.