غدر الأعماق: ذكر الأخطبوط الأزرق يخدّر أنثاه للتزاوج بأمان

3 د
ذكر الأخطبوط الأزرق يحقن أنثاه بسمّ لتخديرها أثناء التزاوج.
السم الذي يفرزه الأخطبوط الأزرق مميت، لكنه يحمي الذكر من افتراس الأنثى.
استراتيجية التخدير تضمن بقاء الذكر وإتمام عملية التزاوج بنجاح.
الأبحاث تواصل دراسة سلوك الأخطبوط لفهم تطوراته البيولوجية والعقلية.
هذه الستراتيجية تعكس تفوق الطبيعة في الابتكار لضمان البقاء.
في أعماق البحار، حيث تسكن مخلوقات بحرية غامضة، اكتشف العلماء سلوكًا لا يقل غرابةً عن سحر المحيط ذاته. فقد كشفت دراسة أسترالية جديدة أن ذكر الأخطبوط الأزرق المخطط يمتلك خطةً مذهلة للبقاء حيًا أثناء واحدة من أخطر لحظاته: التزاوج مع أنثاه التي تكبره حجمًا وقد تتحول فجأةً إلى مفترس قاتل.
لا تقتصر خطورة هذا الكائن على مظهره المهيب ولونه الأزرق اللافت للنظر فحسب، بل يكمن الخطر الأكبر في مادة شديدة السمية يفرزها هذا الأخطبوط الصغير بحجم كرة الغولف، وهي مادة التترودوتوكسين أو TTX. لسنوات طويلة، اعتقدنا أن هذه السموم الفتاكة محصورة في استخدامها للدفاع عن النفس أو اصطياد الفرائس، لكن فريق الباحثين من جامعة كوينزلاند بقيادة د. وين-سونغ تشونغ فاجأنا بأن لهذه السموم وظيفة أخرى: ضمان سلامة الذكر أثناء التزاوج!
وهنا تتجلى مفارقة عجيبة، فبينما تلجأ الكثير من الإناث في المملكة الحيوانية إلى التهام شركائهن الذكور بعد التزاوج، وهو ما يُعرف بالافتراس الجنسي، طوّرت ذكور الأخطبوط الأزرق سلوكًا دفاعيًا شديد الذكاء. إذ تقترب الذكور بحذر، ثم تعض الإناث في منطقة محددة لضخ قدر ضئيل من السم في أوردتهن الرئيسية، مما يؤدي إلى شل حركتها مؤقتًا ويمنح الذكر فرصة ثمينة لإتمام التزاوج بسلام.
سمّ مواز بين الحب والموت
هذه الاستراتيجية الماكرة تضيء جانبًا استثنائيًا من “سباق التسلح” بين الجنسين في عالم الأخطبوطات، خاصة أن إناث هذا النوع تميل إلى التهام شريكها في كثير من الأحيان كجزء من دورة حياتها – إذ إن الحصول على طاقة إضافية قد يحسن فرص نجاحها في وضع البيض وحضانته. كانت بعض أنواع الأخطبوط الأخرى قد طورت أطرافًا طويلة تمكّن الذكر من التلقيح عن بعد، أما الأخطبوط الأزرق المخطط فذراعه قصيرة، ويضطر إلى الاقتراب أكثر، ما يجعله في مرمى الخطر بشكل أكبر.
من هنا يصبح السم واحدًا من أدوات البقاء النادرة في حياته؛ فمن دون هذا السلاح لن يستطيع الذكر ضمان ألا يتحول إلى وجبة أخيرة لدى الأنثى. وعندما لاحظ فريق د. تشونغ الظاهرة عن كثب باستخدام عدسات دقيقة، تبين لهم أن الأنثى بعد العضة تدخل في سكون تام يتوقف خلاله تنفسها لما يقرب من ساعة، وهي مدة كافية ليُنهي الذكر مهمته ويرحل بعيدًا عن أنيابها. وبينما استعادت جميع الإناث عافيتها لاحقًا، أبانت النتيجة أن لديهن مقاومةً جزئية للسمّ، لكنهن ما يزلن في حالة وهن عند الاستفاقة، ما يقلل للغاية من فرص افتراس الذكر.
سباق محموم لتوريث الجينات
وهذا يدفعنا للتأمل في الطبيعة الصراعية للعلاقات الزوجية في عالم الرخويات، فالنجاة بالنسبة للذكر تعني إمكانية تمرير جيناته إلى الجيل التالي ورفع احتمالات استمرار نوعه أمام هذا الاجتياح الأنثوي الشهير. وكأنها لعبة تطورية معقدة تجمع بين الخطر والرغبة والغريزة على شفا هاوية الموت.
وفي محاولة لفهم أسرار التفاوت بين الذكور والإناث، استخدم الباحثون تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي لدراسة أدمغة وأعضاء الأخطبوطات من الداخل. جاءت النتائج لتؤكد أن الذكور، وبالرغم من صغر حجمها مقارنة بالإناث، تمتلك غدد سمّ أكبر نسبيًا، الأمر الذي يؤكد الأهمية الكبرى لهذا السلاح الكيميائي في حياتهم.
يستمر العلماء في تتبع خيوط هذه القصة الغريبة، إذ يأملون بالخطوة المقبلة أن يكشفوا ما إذا كانت أدمغة الذكور والإناث قد طورت فروقًا تعزز هذه السلوكيات غير المتوقعة. وبذلك يبقى الأخطبوط الأزرق المخطط من أعجب حكايات البحر، واعدًا العلماء بجملة أسرار جديدة مع كل دراسة تنجز عنه.
دروس من أعماق البحار
ما تكشفه هذه المشاهد من عالم الأخطبوط الأزرق المخطط هو أن الطبيعة دومًا أذكى مما نتخيل، وأن البقاء للأكثر تحايلاً وخبرة، لا للأقوى فقط. ففي وجه الخطر، تتولد الحلول الأكثر عبقرية لحماية الحياة وضمان استمرارها… حتى لو تطلب الأمر عضة سامة تخدر شريكًا في لحظة حب!