كارثة منسيّة ما تزال تُحرّك باطن الأرض… بعد 80 عامًا من حدوثها!

3 د
كشفت دراسة أن بحيرة آرال لا تزال تؤثر جيولوجيًا بعد ثمانية عقود من جفافها.
تحولت البحيرة من رابع أكبر بحيرة لعالم إلى منطقة صحراوية بسبب الأنشطة البشرية.
خسرت البحيرة أكثر من 1,1 مليار طن من المياه، مما أثر في طبقات الأرض.
يعكس الاكتشاف كيف يمكن للأنشطة البشرية التأثير بعمق على الأرض.
الدرس من كارثة آرال يتحول إلى نموذج لفهم تأثيراتنا على الكوكب.
هل تخيلت يوما أن أنشطة الإنسان فوق سطح الأرض قد تحرك طبقات باطن الأرض نفسها؟ في ظاهرةٍ تثير دهشة الباحثين وتقف شاهدةً على قوة تأثير الإنسان على كوكبنا، كشفت دراسة حديثة نشرت في مجلة "Nature Geoscience" أن بحيرة آرال التي اختفت من الخرائط تقريبًا، لا تزال تنتج تأثيرًا جيولوجيًا عميقًا يمتد إلى عشرات الكيلومترات في باطن الأرض، رغم مرور ما يقارب 80 عامًا على بدأ الأزمة.
قصة "تشيرنوبل الهادئة".. ماذا حدث في آرال؟
كانت بحيرة آرال يومًا ما رابع أكبر بحيرة في العالم، لكن تدخُل الإنسان قلب حالها رأسًا على عقب. بدأت القصة الحزينة في الستينيات من القرن الماضي، عندما قامت السلطات السوفييتية بتحويل مسار عدة أنهار بهدف تطوير مشاريع زراعية ضخمة، مما أدى لجفافٍ تدريجي أدى لتحويل هذه البحيرة الضخمة إلى منطقة صحراوية قاحلة وشديدة السمية، تملؤها سفنُ الصيد الصدئة والرمال والغبار الملوث.
مليارات الأطنان من المياه.. والزمن يعجز عن محو الأثر
فقدت بحيرة آرال خلال عقود قليلة ما يتجاوز 1.1 مليار طن من المياه، وهو حجم هائل يعادل وزن 150 هرمًا من أهرامات الجيزة العملاقة. ورغم أن خسارة هذه المياه تبدو قضية بيئية محلية بالأساس، إلا أن الباحثين كشفوا مؤخرًا أن تأثير تلك الكارثة قد وصل إلى طبقات الغلاف الصخري للأرض، أو ما يسمى "المانتل"، وهو طبقة شبه سائلة من الصخور الساخنة تحت القشرة الأرضية.
السطح يرتفع.. والمانتل يستجيب
قام العلماء بتحليل بيانات التتبع بواسطة صور الأقمار الصناعية، مستخدمين تقنية متقدمة تسمى "إنسار" (InSAR)، بين عامي 2016 و2020، ليلاحظوا ظاهرة غريبة: أن قشرة الأرض تحت موقع بحيرة آرال السابقة تشهد ارتفاعًا طفيفًا ومستمرًا بلغ حوالي 7 مليمترات سنويًا، محققًا ارتفاعًا إجمالياً حوالي 40 مليمترا خلال الفترة التي تمت دراستها. يصف الباحثون هذه الظاهرة بـ "تضخم بطيء" في القشرة يمتد لمسافة تصل إلى حوالي 500 كيلومتر من مركز المنطقة الجافة.
تفسير العلماء بسيط: في السابق، كان وزن مياه البحيرة الضخمة يضغط بشكل مستمر على قشرة الأرض، وعندما بدأ وزن المياه يختفي مع جفاف البحيرة، بدأت القشرة الأرضية تتحرر ببطء شديد وترتفع نحو الأعلى، رد فعل طبيعي متوقع. لكن المفاجأة كانت في استمرار هذا التأثير وعدم توقفه حتى اليوم، مؤديًا إلى حركة بطيئة ومنتظمة للمانتل وهو يستجيب لهذا التغير الكبير في الأحمال فوقه.
كارثة آرال.. كيف أصبحت درسًا عن كوكبنا؟
هذا الاكتشاف، حسب الخبراء، لم يعد يعكس مجرد كارثة بيئية إقليمية، بل تحول إلى نموذج فريد لدراسة تأثيرات النشاط البشري على مكونات عميقة داخل كوكبنا. العالم الجيولوجي سيمون لامب، الذي لم يشارك مباشرةً في إعداد الدراسة، قال موضحًا:
"لم تكن البحيرة عميقة جدًا في السابق، لكن مساحتها الهائلة كانت كافية لتؤثر بشكل ملحوظ على القشرة والطبقات الأسفل منها. هذه الأوزان الهائلة من المياه تسببت في انضغاط واضح، وما يحدث الآن مجرد ارتداد بطيء لكنه مستمر".
الآثار تمتد لما هو أبعد من آسيا الوسطى!
الدرس الذي تقدمه كارثة آرال يحمل أهميته الخاصة في عصرنا الحالي. بحسب الباحثين، ما حدث في تلك البحيرة قد يتكرر في ظروف مشابهة حول العالم مع استمرار الذوبان الجليدي الهائل وخسارة المياه الجوفية بصورة كبيرة ولأغراض بشرية، هذا النوع من الآثار الجيولوجية السلبية بات ممكنًا أن يكون قضية كوكبية عالمية لا إقليمية فقط.
في المحصلة، فإن ما تعرضت له بحيرة آرال، تلك "الكارثة المنسية"، يرسم أمام البشرية صورة واضحة وملموسة جدًا عن مدى تداخل وتأثير الممارسات البشرية على كوكب الأرض، تاركًا بصمةً - ليست على السطح فحسب - بل على أعماق كوكبنا، وفي طريقة تتحرك بها صفائحه وطبقاته الداخلية. قد نرى قريبًا المزيد من الدروس المماثلة من مناطق أخرى من العالم، لتذكّرنا دائمًا أن أفعالنا لا تترك أثرها على المحيط الخارجي فقط، وإنما تستطيع أن تغير داخل كوكبنا أيضًا بشكل عميق وبطيء ومستمر.